د.سامي هاشم الحسناوي
على مدى قرنٍ من الزمن عاشته وزارة الخارجية، كيانٌ حيٌ مُفعمٌ بالنشاط و التألقْ ، نما و تطّور و جادَ في العطاء الوطني و العربي و الاقليمي و الدولي ، يتعبُ احياناً ،لكنه لم يمرضْ . تمضي به السنون و يُعّمرْ لكنه لم يمتْ ، بل العكس يزاددُ ثراءاً بالخبرة و الدور ،و يتكّيف وفقاً للظروف والتحديات والمتغيرات التي تمّيّزُ عالم اليوم .
كانت وزارة الخارجية ولاتزال ، ليست نافذة العراق على الخارج ،بل منذ و معبر العراق الى الخارج ، ومدخل الخارج الى العراق . تركت اسماً و دوراً للعراق في تشكيل عصبة الأمم ،حين وافقت الجمعية العامة لعصبة الأمم ،في ٣ تشرين الأول عام ١٩٣٢ ، على قبول العراق عضواً في عصبة الأمم ،بناءاً على طلب الانضمام ،الذي تقدمّت به وزارة خارجية المملكة العراقية ،بتاريخ ١٩٣٢/٧/١٢ ، وبذلك أصبحَ العراق اول دولة عربية مُستقلة تنضّمُ الى هذه المنظمة الدولية حينها .
أدركت الخارجية العراقية ، وهي التي تُمثّل وتنفذ سياسة العراق ، دورها التاريخي في عصبة الأمم ، وبعدها في منظمة الأمم المتحدة ، والتي ساهم العراق في تأسيسها عام ١٩٤٥ ، بأنها تدافعُ ليس فقط عن مصالح العراق ،وحسب وإنما تدافعُ عن مصالح جيرانها وأشقائها العرب ، كمثال وشاهد لهذا الدور التأريخي لخارجية العراق تجاه أشقائه العرب ، يحضرُ ذكر ما قام به وزير خارجية العراق حينها ،المرحوم الدكتور فاضل الجمالي ،عام ١٩٥٤ ،حين مكّنَ الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة ،من دخول الأمم المتحدة ،حيثُ مُنِعَ من دخولها لعدم تسّنمه صفة رسمية ، لعرض قضية تحرير واستقلال تونس . تزامناً مع دور العراق الدولي والأممي ،عبر وزارة الخارجية ، كان له أيضا دور المؤسّس للجامعة العربية عام ١٩٤٥ .
لم يكْ عمل خارجية العراق ،ومنذ تأسيسها ولليوم ،عملاً هيّناً ، حيث واجهت و تصدّت الخارجية للتحديات والمواقف الدولية والإقليمية والعربية الصعبة التي عاشها العراق و عاشتها المنطقة . العراق و المنطقة واجهوا حروب وليس حرباً واحدة ، و العراق واجه الحصار و الاحتلال و عقوبات الفصل السابع ، والإرهاب ، فأدتْ الخارجية واجبها ، وتحمّلت ومسؤوليتها ، حيث اضطلعت بعثاتها في الخارج بالدفاع عن مصالح العراق ، وتبيان دور العراق بمحاربة الإرهاب نيابة عن العالم ، وتذكير مؤسسات الدول وشعوبها بالتضحيات التي قدّمها الشعب العراقي في مقارعة الارهاب والارهابيين .
حرصتْ الخارجية ، على تبني توازن فاعل ، بين فواعل مؤثرة جداً في أداءها و رسم دبلوماسيتها . فما هي هذه الفواعل ؟
– أظهرت الخارجيةً حرصها الشديد على تبني المواقف و الاداء الدبلوماسي وفقاً للدستور و توجيهات الحكومة ،وجميعها تؤكد على الحفاظ على سيادة العراق ،و على مبدأ حسن الجوار ،وعلى امن واستقرار العراق و المنطقة . وكانت للخارجية مبادرات ناجحة في التقريب بين دول المنطقة المتخاصمة ( المملكة العربية السعودية و ايران ) ، كذلك اعتماد الدبلوماسية في حّلْ الخلافات مع دول الجوار ،وخاصة تركيا ، كذلك اعتماد سياسة و دبلوماسية الانفتاح و التعاون الاقتصادي الكبير مع الأشقاء العرب و مع دول الجوار .
– نجحت الدبلوماسيّة العراقية بترشيد و عقلنة توجهّات الأحزاب و الشخصيات السياسية ،التي تتبنى احياناً خطابات و تصريحات و مواقف بشأن علاقات العراق الدولية والسياسية ، بَيدَ أن هذه العلاقات هي حصراً من عمل واختصاص وزارة الخارجية .
– ترجّمَ الأداء الدبلوماسي للوزارة وبنجاح سياسة العراق الثابتة في رفض التمحّور و الحفاظ على مسارات و قنوات اتصال فعّالة مع الجميع . وهذا التوجّه الدبلوماسي و السياسي للوزارة يتماشى مع التغيرات التي طرأت على طبيعة العلاقات الدولية ، والتي لم تعدْ قائمة على تحالفات ثابتة ،و انما تقاطعات متقلبّة ، و وفقاً لمصالح الدول .
لم تغفلْ او تهملْ سياسة العراق الخارجية دور العراق ازاء اشقائه العرب ،رغم الأجواء و الظروف السائدة في عالم اليوم ، والُمجرّدة من مُراعاة معايير الاخوّة و التضامن و المصير المشترك ، حيث ساهمَ و يساهم في تعزيز التعاون والتضامن مع الاشقاء الذين هم بحاجة الى دعم نفطي و تجاري وسياسي.
في عالم اليوم المُتخم بالتحديات و المشاكل ،وعلى كافة الصعُدْ ،وليس فقط على الصعيد السياسي و الدبلوماسي ، يصبحُ معيار نجاح وفشل دبلوماسية دولة ما ، هو كفائتها و دورها في حماية مصالح الشعب ، و حماية الدولة من التورط في نزاعات او الانسياق تجاه تحولّات استراتيجية لا تتماشى مع تطلعات الشعب وتخالف ثوابته الاخلاقية و الاجتماعية و التاريخية . و وزارتنا اثبتت و بجدارة تمسكها بهذه الثوابت ،ألمُعّبرة عن مصالح الشعب و تطلعاته .
ليس من البساطة ان نتحدث عن مسيرة استمرت تسعا وتسعون عاما عاصرت من خلالها وزارة الخارجية كل الاحداث الدولية والداخلية وحققت نجاحات كبيرة رغم الظروف الدولية وماحدث للعالم من ويلات وحروب وحالة الاستقطاب العالمي.. لقد ولدت الدولة العراقية بعد نهاية حرب عالمية مدمرة كانت واحدة من نتائجها تقاسم ميراث الدولة العثمانية فكان العراق من حصة بريطانيا التي جوبهت بثورة العشرين والتي اثمرت عن اعتراف بدولة العراق وولادة اول مملكة تحت الاحتلال البريطاني. فكان لبريطانيا اليد الطولى في توجية السياسة العراقية ومع ذلك كانت للخارجية العراقية دور فعال في تبني سياسة عراقية فاعلة وليس هناك اوضح من مواقف وزراء خارجية اثروا برسم سياسة المنطقة وكان لهم دور بارز في الاحداث والتحالفات التفاهمات العالمية في العهد الملكي امثال توفيق السويدي الذي كلف مرات عدة بادارة وزارة الخارجية ونوري السعيد الذي عد من دهاة ساسة المنطقة شانها شأن اي وزارة كانت مسؤولة عن رسم خطط الدبلوماسية العراقية وهي من كانت شاهد او تسهم بكل ماحدث.. وقطعا هناك علامات فارقة في عمل هذه الوزارة..وقطعا شهد العهد الجمهوري اسماء لامعة لوزراء خارجية كانوا من صناع الاحداث الكبري التي مر بها العراق والمنطقة.. ولابد لنا ان ندرك ان العراق لم يكن بمعزل عن الاحداث العالمية فاثرت به واثر بها بل كان لاعبا رئيسيا في احداث كبرى، من هنا كان لكفاءة وحنكة وثقافة ومهنية الوزيز تاتير كبير ظهر ذلك جليا في مواقف وسياسة عدد من وزراء الخارجية في العهد الملكي يقف على رئسهم نوري السعيد وتوفيق السويدي وارشد العمري وعبدالمحسن السعدون وياسين الهاشمي واما العهد الجمهري فتميز بعدد من الوزراء المؤثرين في رسم سياسة العراق امثال ناجي طالب وعبدالرحمن البزاز وغيرهم. ويبقى تاريخ وزارة الخارجية حافلا بمواقف مشهودة لهذه الوزارة والعاملين بها ولا يمكن لنا ان نغفل الدور المكمل لسفراء وبعثات العراق في الخارج والذين تميز البعض منهم ليكون عميدا للسفراء في الدولة التي يعمل بها.. ورغم تسارع وتيرة الصراعات الدولية في شرقنا الاوسط ومرور المنطقة بمنزلقات خطيرة نأي العراق بنفسه عن حمى هذه الصراعات ويعود الفضل في ذلك للسياسة الرشيدة التي اتبعتها وزارة الخارجية وخاصة بعد حقبة عمل صعبة َومريرة تمثلت بدخول العراق للكويت وما تبع ذلك من قرارات الحصار الجائر والتعويضات وغيرها من القضايا المعقدة التي تصدت لها وزارة الخارجية بكل حنكة.. وقد شهد عمل وزارة الخارجية ووزرائها تطورا كبيرا بعد عام ٢٠٠٣ حيث منح الوزراء حرية اكبر رغم التقاطعات التي احدثتها المحاصصة والمواقف المتباينه والمتناقضة احيانا للكتل الحاكمة ووضع العراق في موقف لايحسد عليه تمثل في وجودة في اخطر مناطق الصراع الدولية وتقاطع المصالح ومع ذلك حققت الدبلوماسية العراقية الهادئة والحكمية انجازات كبيرة في مجال ترطيب الاجواء بين دول المنطة وايجاد قاعدة حوار مشتوك افضى الى تقريب وجهات النظر بين السعودية وايران من جانب ومن جانب اخر كان لمؤتمر مجموعة ال ٥+١ واحد الذي عقد في بغداد والانفتاح على دول المنطقة واذابة كل ماعلق بالعلاقات الاخوية بين العراق واشقاءه والانتقال الى مرحلة التفاهمات والعمل المشترك حيث حققت وزارة الخارجية العراقية نجاحا متميزا في هذه الملفات الشائكة ويعزى الفضل في ذلك الى الكفاءة والحنكة التي يمتاز بها وزير خارجية العراق الحالي السيد فؤاد حسين والذي مهد سلفه الزيباري لهذه الانجازات على المستوى السياسي والدبلوماسي ليكمل هذا المشوار الوزير الحالي فؤاد حسين وينأى بالعراق عن الصراعات التي تحيق بالمنطقة ويكون العراق محل ثقة العالم حيث توافد رؤساء حكومات اغلب الدول ووزراء خارجياتها لزيارة العراق وكان للوزير الحالي دوراً فاعلاً ومؤثراً في رسم سياسة العراق الخارجية محققاً نجاحات باهرة و ومؤثرة انعكست على مرحلة مهمة في تاريخ العراق السياسي من خلال حل الازمات التي تواجه المنطقة وعقد الاتفاقيات والاشادة بدور العراق، الفاعل في حل ازمات المنطقة وهنا لايسعما الا ان، نحي هذه المسيرة الظافرة لوزارة الخارجية ونبارك لها احتفالها بمرور تسعة تسعون عام لولادتها الميمونة كما نبارك للوزارة و لوزيرها و لسفرائها وللذين تركوا بصمات في مسيرتها ،ولكافة منتسبيها ،ونبارك للعراق الحبيب هذه المناسبة . ونشّدُ على سواعد دبلوماسيها ونأملُ منهم حُسن الاداء و كُثرة العطاء خدمة للعراق ولتاريخه ولمكانته ولمصالح الشعب .