مصطفى سمير مصطفى
أكتب فتسخر مني حروفي وتنتقدني عندما تكون في جمع متراص. جرب الآن ان تكمل كتابة السطر الذي تتخيل وجوده اينما تحط مخيلتك على الورقة.
ربما هي ليست بالعقول، بل بالمكان… إذن هي غرفتي التي تخنق الكلمات وتمنع كتابة ما اريد ومتى ما اريد. جعلني ذلك أبغض الذهاب الى المكتبة حيث يجب عليّ ان استقل الحافلة العمومية ثم على الاقدام تحملني مخاوفي، «هل سأرضى عما اكتب؟ هل سأكتب شيئاً حتى؟ هذا الصوت.. صوت الموسيقى التي أسمعها دائمًا قبل دخولي المكتبة ومنذ صعودي الحافلة وأثناء كتابتي، كان يساعدني على تقمص الجو العام للفصل الذي اكتبه». أحيانًا أكون سعيدًا او مصابًا بلوعة الحب او خائفًا من شيء ما كان او سيحصل.. الموسيقى لا تخفي ضجيج افكاري في الخلفية، هي فقط تبرزها أكثر.
اجلس الآن واطلب طلبي المعتاد، قهوة وماء. لا أحب القهوة لكن اشربها طمعًا في النشاط الذي يعتريني مقابل مرارته، وكذلك الحياة. الآن سأجلس امام الحاسوب أَتفكر واكتب واراجع ثم اخطط للفصل القادم كيف يجب ان يبتدئ؛ هذه هي العملية المعتادة لي دائمًا وابدًا، لكن تظل غير كافية، فعلى هذا النهج لن انهي روايتي حتى السنتين القادمتين.. لكن لما لا يمكنني الكتابة في غرفتي حيث منزلي وأسرتي؟
ليس وكأنه يعج بالضجيج الدائم، لكن عقلي ليس معي حينما أكون معهم، بـ (معهم) اقصد حيطان غرفتي والباب الذي يرفض ان يغلق من اول محاولة، وأقصد ايضًا الكرسي المريح ليس عكس الذي اجلس عليه في المكتبة، وأزيد قصدي بطاولة المكتب الواسعة والمرآة التي خلفي.. أبغض النظر للمرآة التي خلفي، لا أرتاح لفكرة انها تراقبني من الخلف وحينما أستدير اجدها تقلدني كأنها أنا، وأنا لا يحب أنا بعض الأحيان، بالمكتبة أحب نفسي وفي غرفتي وبين أصدقائي لا أحبها، لا تمثيلاً مني معهم ومع نفسي حيث غرفتي مع راحتي وحدي، لكن وحدي امام حاسوبي ورفوف الكتب تسترق النظر حول ما اكتب هي ما تعطيني طاقة ودافع لأنهي فصلًا في اليوم الواحد، نعم، أنا اقوى وحر طليق حيث هناك.. هناك أحب نفسي وهنا أكرهها.
اغار احيانًا من الذين يستطيعون الكتابة في أي مكان وأي وقت بينما يصغون الى كُل شيء ولا شيء، عكسي تمامًا. هل هذا معناه أنهم أمهر مني لأنهم أكثر تكيفًا؟ أعني… لا أدري.. لهم نصيبهم ولي نصيب، لديهم الامكانية على أشياء ولي انا إمكانية ليست لهم على أشياء، هم قرأوا الكثير وأنا كررت قراءتي لما لدي من قليل، اعرف بعضهم يمكنه ان يطبع كتابه ويجد خليله من اشباهه ويتفلسف ويقول ما كَتبَ لجمعٍ غفير من الناس، أريد ان أكون أحسن منهم، لا غيرةً عليهم، بل على نفسي.. لمن اكتب ولمن هم يكتبون قد نتشابه في هذا، اما في مسألة لِما، تتغير الحال، فأنا أكتب لأني.. اه، لست بمختلفٍ عنهم… بماذا كنت أفكر؟ لما كنت سأكذب على نفسي؟ فما انا الا عشوائية تحاول ان تكون شيئًا، عشوائية تصارع عشوائية لتكتب شيئًا، ها انا ذا، عشوائية داخل غرفتها تكتب هذه المقالة، أنا افهم نفسي الان، بعض الشيء هه، من انا حتى احكم واتكلم، لو توقفتُ عن التذمر وكتابة الحجج وركزت في كتابة روايتي الان، لأنهيت فصلًا كاملًا وانا لستُ في المكتبة!
ما أعظم مصيبة الانسان وكيف له ان يزين افعاله وافكاره بترّهات، والاعظم ان يأتي الاخرون ويحيونه على ترهاته… ترهاتٌ ستضل قائمة مالم يأتي من ينقضها او يزيدها سوءًا. هل من اجل ذلك يجب علينا ان نكتب؟
لا، هذا فقط شيءٌ من أشياء كثُر وجبت علينا لأننا نكتب. سنكون خاسرين إذ ما استطعنا ان نتكتب ولم يكن جزء من اهدافنا هي دحض الترهات… سنكون فقط كاتبًا يكتب، فلا عملًا قيمًا ولا فكرةٌ تغير شيئًا تصدر منك، وقتها الجميع سيستطيع استطاعتك، فما فرقك عنهم ان لم تهدف الى التغيير؟ ما فرقك ان كتبت عما كتبوا هم ولم تزد عنه شيئا سوى اختلاف شخصياتك وزمان ولادة افعالها؟ هنيئًا لك نعيم الجهل إذ ما رضيتَ وكتمتَ التضمين وإبداءَ الفائدة والرسالة في كتاباتك…
كَثُرَ ما كَتَبتُ وانا في غرفتي، هه، هي ليست بالمكان، بل بالعقلِ إذن، فالعقل هو مصدر كل شيء في النهاية لا المكان. هم لا يصدون جسدك، بل فقط عقلك عما هو خارج سجنك، بهذا يضمنون عقابك. ضعفك يبان لحظة تحججك ببيئتك ومكانك.. وستخسر ما ستكون عليه ان رضيت بما لا يجب ان تكونه…
كما قلت، هي ليست بالمكان، بل بالعقل، فكل هذا كُتِب وانا في أكثر مكان صَدَقتُ انهُ يمتص ما فيي من ابداع في استرسال بالكتابة، وهي فقط لحظة واحدة لا تستمع فيها الى حججك واعذارك، بل تقوم بالحكم عليها وتغتص جوف باطلها فتمنعها عن التحجج، ثم بعد ذلك، لا يوجد من يوسوس لك داعي افعالك، وقتها هنيئًا لمن عرف نفسه وعَمِلَ بها بما هو حقٌ عِنده.
كُتبت بعفوية في ليلة واحدة، كنت فيها أتحجج عن توقفي عن الكتابة بسبب عدم ذهابي الى مكان يَسُرُّ بي، ثم ايقنتُ بعفويةٍ ايضًا، ان من له استطاعة على الكتابة، لا حجة له عن اين يكتب ولمن يكتب وماذا يكتب.