ولدت في بيت جدي في قضاء الأعظمية في بغداد في عام 1943م. وكان جدي يبدو في عقاله العربي وعباءته كأنه أحد أمراء الخليج، أما جدتي لأبي فكانت مترفة في ملابسها، وسلطانة في جلساتها وأمامها «منقلة» الشاي. ومن الطفولة تعلقت كثيراً بجدي وجدتي، وكانا يدللاني جداً.
ولا أنسى أن جدي أهداني ذات يوم وأنا طفل خنجراً عربياً جميلاً لا أزال أحتفظ به. لكن سرعان ما انتقلت عائلتي إلى مدينة خانقين على الحدود العراقية – الإيرانية، حيث كان يعمل والدي ملاحظاً فنياً في شركة النفط البريطانية «بريتش بيتروليوم» الشهيرة بحرفي (بي. بي). وفي هذه المدينة الجبلية الجميلة التي تقع على نهر الوند الذي ينبع من الأراضي الإيرانية ويصب في نهر ديالي، أحد أكبر روافد نهر دجلة، تفتح ذهني على ما حولي ودخلت المدرسة الابتدائية.
– كانت منطقة الأعظمية، التي ولدت فيها منطقة راقية، وما زالت، وتقع على شاطئ نهر دجلة ويفصلها عن قضاء الكاظمية الديني نهر دجلة في أوسع عرض له. وكان يربط بين الكاظمية والأعظمية جسر قديم مشيد على قوارب حديدية طافية، ومربوطة ببعضها بحبال وأسلاك متينة، وتهتز جميع أطراف الجسر حين تعبر عليه السيارات الخشبية القديمة من أنواع «شيفروليه ودودج وبيد فورد». وكانت هذه السيارات تنقل البشر والحيوانات معاً، لم يكن راديو السيارة قد دخل الخدمة بعد، فكنا نستمع لمعمعة الخراف طوال الطريق. وأتذكر أن الخراف كانت تتهستر حين تبدأ السيارة بالترنح فوق ذلك الجسر العتيق المتهاوي، بينما يتعالى صوت النساء المبرقعات بالعباءات السوداء وغطاء الوجه «البوشية» السوداء الشفافة: «يا ستار، يا حافظ». ويتمتمن بآيات قرآنية لدفع البلاء. وكثيراً ما كانت حبال ذلك الجسر تتقطع بفعل الرياح والفيضانات، فيتسابق الرجال إلى محاولة إنقاذ من يمكن إنقاذه وإعادة ربط الجسر وسط قرع الطبول والدفوف في مهرجان فولكلوري لا أزال أتذكر بعض أطيافه، بينما سرد علي والدي – رحمه الله – تفاصيل أوسع عن عبور ذلك الجسر كأنني أشاهد فيلماً سينمائياً مثيراً عن جسور الحبال التي كان يعبر عليها هاريسون فورد بطل سلسلة أفلام «إنديانا جونز»!