يكتبها : محمد فيض خالد
رأيته أول مرة في كامل أبهته ،يتألق في هندامه ،وابتسامته تنساب تغالب برودة المكيف في صهللة أخاذة ، يتقبلها المارة بقبول حسن ، بطلنا تجاوز الخمسين بقليل ، لكن أجمل ما فيه روحه المتمردة على الزمن واستخفافه بسنواته ، في عناد يقاوم جريانها ،ويغير وجهتها لو استطاع ،يتبدى جليا في شعره الكثيف الغارق في صبغته ، حافظ « حسن النوبي « على أناقة الماضي بكل تفاصيلها ،حتى وإن بدت على غير هوى الحاضر الفوضوي، يكفر صاحبنا بتقاليع الشباب ، يستعيض عنها باستسلام تام لألوانه المعقدة ، لا يقبل التنازل عنها ولا يساوم ،في هِمةٍ ودأب ،يَملأ يده بحزمِ الورق ،مرات يُطالعِها في انهماكٍ ، ويبرمها مرات، يُناور لإخفائها عن الأعين ،لكنه رغم هذا لا يستنكف عن التّرددِ على مكتب المدير ، هذا يومي الأول في العمل ، حياني بابتسامة جنوبية غائمة ، اطال النظر في ذهول ، قبل أن يعاود التحديق ثانية في حافظة أوراقه الحمراء الحبلى من كل صنف ، منذ ساعاتي الأول ومئات الأسئلة تزايل وجهه الأسمر المغضن ،لكنه يجفل من الاقتراب ، ربما لفارق السن ، وربما أنفة مصطنعة ، يبديها لمن حوله ،لكن تحفظه يخونه في الأخير ، فيندفع على عماية وارتباك ، يلقي ببصره في تلصص محموم ، يتتبع خطواتي خاصة أوان مروري بين الموظفين لمتابعة بعض المهام ،عندها فقط يخرج عن وقاره ، وينفض عنه تحفظه ، يتحرق غيظا ، ينهر الفراش البنغالي بغلظة، لقد تأخر الملعون عن احضار كوب حبة البركة المغلي ، يطلق عقيرته في نشوة المجرب ؛يعدد فوائد هذا المشروب السحري على المفاصل ، وكيف أنه يقوي الباه ويعيد الشيخ لصباه ،ثم يترك الحبل على الغارب ليستغرق في حديث فاضح ، يذكر أنواع النساء ومزاجهن في الفراشِ ،ينَخرطُ بعدها في ضحكٍة صارخة ، يَستفيقُ سريعا من غَفوتهِ ، ليبدأ في تَمجيدٍ ذاته ، يُؤشِّر بحافظةِ أوراقه في الهَواءِ ، قائلا :» موظفين آخر زمن ، الله يرحم أيام زمان!» .
ثم يواصل برطمته في لكَنةٍ نوبيةٍ حَادة ، يَفركُ في كرسيِه كالمَحمومِ ،لم أكن لأعبئ كثيرا لتَهورهِ واندفاعه ،لم تنقطع عنه الهواجس ، تزداد وطأتها حين تنهال عبارات الثناء تشهد لي بالكفَاءةِ ،تَفورُ فورته يكاد يَتمَّيز من الغيَظِ ،يدقُ دقات مُتواصلة على مَكتبِه ، يَغيمُ وجهه كالمغشى عليه من الموت ، حاولت أكثرَ من مَرةٍ أن أُسرَّي عنه ، اتَلطَّف به أحيانا ، وأحيانا اُجالِسه مُصحوبا بأكوابِ الشاي ، لكنه يُزمجرُ كهرٍ مُتحفز ، اعرف يا صديقي ما يَدورُ برأسك ، واشعر بما يضيقُ به صدرك ،مُؤخرا علا نقره فوق لوحةِ حاسوبه ، جعلها سلواه ، يقترب من شاشته المكورة ، يهز رأسه في انتشاء ،يرن هاتفه ، يستدير بكرسيه سريعا، وقد اتصلَ بحديثٍ باسم مع من حوله ، يجلدني بعينٍ حَمئة ، لا افهم من كلامه غير بضع كلماتٍ استجليها بصعوبةٍ ،تلتقطها أُذني في شَغفٍ ، حَاولتُ كثيرا فكَّ شِفرتها ، يقول في ضحكةٍ متهللة :» يا شيخ ، قول والله العظيم ، يخرب شيطانك « ،في الأخيرِ عجزتُ عن مجاراته فاهملته، زادت شهيته ، انبرى في حمَاسٍ يَستعرضُ أفكاره على الملأ لتطوير العمل ، يُمرِّرُ راحته في ارتياحٍ فوقَ حَافظةِ أوراقه ،يُعلنُ عن أفكارهِ التي حَتما ستغّيرُ خَارطة العمل بالوزارة ، يُهاتِفُ على الفورِ مكتب وكيل الوزارة يلح على سكرتيره في شجارٍ ؛ كي يضربُ له مَوعدا .
انقضى أسبوعا بالتَّمامِ فلم أعد اسمع صوت صاحبي ،رأيته مهموما على غير عادته ، قابلته بالقرب من دورات المياه يجر رجليه في انهزام ، حييته فأجاب التحية بإيماءة لطيفة ،انطفأت حماسته ، انزوى في زاوية ، مكتفيا بروتين يومه الذي يبدأ بشجار مفتعل مع الفراش ،وأحاديث الهاتف بتلك اللغة المشؤومة ، خلا مكتبه أخيرا من حافظة أوراقه ،وتوقف عن نقره فوق لوحة الحاسوب ،لكن اللافت أنه انصرف عني في تعمد ،بيد أنه بين الفينة والأخرى يرفع عقيرته في استهزاء صريح بسعادة الوكيل ، الذي لا يقدر الكفاءات ولا يرعى الخبرة.