بقلم / منيرة الحاج يوسف
إن القصيدة من درر ما خطت أنامل سيد القريض في الغزل العفيف،تعرض نوعا جديدة لعلاقة الرجل بالمرأة بعيدا عن استغلال المشاعر بل يقدم الشاعر نموذجا راقيا قوم على التقدير والتقديس بدل الانغماس في عاطفة مصطنعة.
تقوم المقطوعة على الخطاب المباشر من خلال الأسلوب الطلبي أمرا ونهيا وتحذيرا، إلا أن قسما كبيرا منها خصصه لوصف الطرفين حتى يكشف ما بينهما من اختلاف دونه الائتلاف.
ويستهل الشاعر قصيدته بمفارقة لطيفة، ففي صدر البيت يطلب منها مواصلة كتمان مشاعرها مستخدما الناسخ الاسمي الدال على الاستمرار (ظل) وفعل الأمر (اكتمي) أما في العجز فيكشف لها أنه عالم بحالها فقد تكفل فؤادها بكشف لواعجه، وتكفل فؤاده بالإنصات إلى نبض قلبها الذي قارب أن يعلولشدة انتفاضه فيصبح جهرا، ولعل الصورة التي اوردها صورة متعارف عليها في قواميس العشق العفيف فالعاشق مهما تكتم تفضحه عيونه وتقاسيم وجهه ورفيف جفنيه واحمرار خديه ومع ذلك يظل الصمت مطبقا لا يقدر معه لا على بوح ولا اعتراف، وقد استعار لصمتها صورة الليل الحالك الذي تكشف ظلمته النجوم وتنيرها كما وظف الاستفهام الإنكاري ليبكتها، فهو على دراية فائقة بارتعاش نبضها وجمر إحساسها، وكأنها كتاب مفتوح يقرأ سطوره بكل وضوح فكل تفاصيلها تنطق بهواه بشكل مفضوح، بل ويستخلص موقفه مما يقرأ إذ يصرح بموقفه منها ويعترف لها بجمال ما يحمله قلبها من مشاعر العشق الصامت النظيف فيبدو منبهرا بعلو العاطفة السابحة في عوالم النقاء والطهارة فالعشق من منظوره دين أحق أن يعتنقه الناس فينقي سرائرهم ويسمو بأرواحهم ويعطرها.
بل العشق في تقديره بلسم للجروح ودواء للمواجع.
لقد شبه الشاعر العاشقة بفراشة تزينها مشاعرها ويدعوها أن تمتص رحيق العشق من رياض المنى لكنه في المقابل يصرح لها في أسلوب شرطي تلازمي أن إكباره لمشاعرها لا يعني أبدا انه يبادلها نفس المشاعر فهو لا ينظم الشعر لغرض التغزل بالعذارى فقلبه مقيد بأنثاه التي ما عشق غيرها ولا تغزل بحسن غير حسنها وانتهى الى تحذيرها من صروف الزمان محاولا أن يفتح عينيها على حقيقة الدنيا وما تحويه من خبائل، فجاءت بعض أبياته حاملة لمعاني النصح والإرشاد وقد توسل من اللغة ما يخدم هذا المقصد
فتحول من صورة المعشوق إلى صورة الناصح الذي يخشى عليها من الوقوع في الخطإ وما ينجر عن ذلك من مواجع
إن الإيقاع الخارجي للقصيدة، بحر الكامل وقافيتها عاضدا إيقاعها الداخلي الذي أحدثه الجناس غير التام في مواطن متعددة منها (رق،رقاق لطف، ألطافه، مناسك، النساك ، دنا، دنياك، عاشقا، عشقا…)وكذلك التكرار والتماثل التركيبي (ظلي بصمتك، ظلي بصمتك، الصمت، صمتك، العشق، العشق، عشقا، عشقي، عاشقا، عشق ، ليس، ولست،ليس)
إلى جانب تواتر الإثبات والنفي القسم والشرط مما جعل القصيدة آية من آيات الغزل العذري صور فيها الشاعر صدق عاطفتين نقيتين وإن لم يتوافقا فقدم خيار الفراق متنزها عن كل ما من شأنه أن يمس من إنسانيته فيستغل مشاعر العاشقة أو يتلاعب بها لغاية متعة زائلة مذلة لكليهما
لكن المثير هو إصرار الشاعر على غزو مساحة الصمت التي اختارتها العاشقة وكسرها فهل هو غرور الحس الذكوري عند الرجال أو رغبته في الأخذ بيدها وتقديم النصح لها؟
نص باذخ كما البقية تحيتي والورد لشاعر القيم والعاطفة الراقية.
قصيدة:
عاشــقة…. ولكن
ضياء تريكو صكر
ظلّي بصمتكِ واكتمي نجــــــــواك فضـحَ الفــؤادُ لهــيبَ مــا أضـناكِ
وأكادُ أســـــمعُ خفقَ قلبٍ مفعـــمٍ – بالحبِّ مهمــــا راوغـــــتْ عــيناكِ
ظلّي بصمتكِ فالنجــــــومُ كواشفٌ
أوليسَ مِنْ ذاكَ الدّجــــــى ليـلاكِ
والصمتُ في العشقِ النظيفِ مفاتنٌ
يجــري برقٍّ مِن رُقَــــاقِ هـَــــواكِ
يســــقي الثرى لطفـاً على ألطـافِهِ
جــــادتْ وما بخــــلتْ بها كفّــاكِ
إنْ كانَ صمتُكِ في الوقـارِ شـــعائراً
فالعشـــقُ يســــمو إن دنا تقـواكِ
للنّاسِ في شَــــــرعِ الإلهِ مناسـِــكٌ
والحــبُّ، صدقاً، قبلةُ النسّـــــاكِ
عبقُ الـجنانِ يفوحُ عشْــقاً عطرَها،
يشـــــفي المواجعَ بالذي أعـْياكِ
ومِنَ الرحـــــيقِ تضوَّعَتْ أطيـارُها
حتى غــــدا التبيــــــــانَ للإدراكِ
كفراشـــةٍ طـــوفي على أزهــــارِها
ولتمْلئِي في الصــبِّ كُـلَّ مُـــناكِ
أنّي وإنْ قدَّســـتُ فيكِ مشــــاعِراً
فصبوبُ عشـقي ليسَ مِنْْ مجراكِ
ما كنتُ في تلكَ اللواعـجِ عاشــقاً
دنيايَ عـشـــــقٌ ما دنا دنيـــــاكِ
واللهِ ما صغتُ القــريضَ مُغـــازِلاً
إلاّ بوصــفٍ في غنـــــــاجِ مـلاكي
قدْ تعذرينَ صراحتي مهما قسـت
أنا لسـتُ مِن بينَ الرجــالِ فَـتاكِ
لا تأمني الدنيــا وغــدرَ زمـــــانها
والمــــاءَ خــلفَ ســـرابِها إيّــاكِ
وأقــولُ إن مسَّ الكليمَ رهيفُهــــا
قد خابَ، عذراً، في الهوى مسعاكِ
ليسَ ابتـــلاءً أنَ نطــــاوعَ بُعْـدَنا
حـانَ الفـراقُ ولســـتُ مِنْ بلواكِ