كريم هاشم العبودي
كامل الكعبي

حتى أوائل السبعينات ولعقود خلت قبلها، كان أبو نواس هو المنتجع الليلي الوحيد تقريباً على ضفة دجلة قبل أن تنهض أماكن أخرى في منطقة المسبح أو الأعظمية والفحامة التي لم تستطع أن تسرق أفضلية هذا الشارع.
ولكن مأساة الشارع الحقيقية أنه كان يرقد في الجهة المقابلة للقصر الجمهوري (مقر حكم النظام السابق) ولذلك فأن نهايته أو موت الشارع الحقيقي كان على يد القصر الجمهوري، فقد بات ممنوعاً على المواطن أو على رواد الشارع أن (يتنفسوا) أو ينظروا الى الجهة المقابلة، وهكذا فضل المواطن الهجرة الى مكان آخر تجنباً لمطاردات رجال الأمن وعيونهم..
هذا ما قاله ناجي علي وزميله وعد سلمان , وهما احد رواد شارع ابو نؤاس منذ عقود .. والذين اكدوا على عودة هذا الشارع الخالد .. واسترد عافيته بفضل المخلصين من ابناء العراق ..

حكايات الف ليلة وليلة
فشارع أبو نؤاس الذي يقع على الضفة الشرقية لنهر دجلة في جانب الرصافة بين جسري الجمهورية والمعلق يرتبط بحكايات الف ليلة وليلة وله تاريخ عريق وتعود تسمية الشارع نسبة إلى الشاعر العربي الحسن بن هانئ المشهور بـ «أبو نواس» والمعروف بشاعر الأنس والمرح الذي ولد عام 762ميلادية , وتوفي عام 817 للميلاد ونشأ في مدينة البصرة وغادرها ليستقر في بغداد.
وهنا يتحدث عمار العزاوي عن شارع ابو نؤاس اليوم فيقول : امانة بغداد قامت مجدداً بالاعتناء به والباسه ثوبا جديدا مبهجا ليعود، وتم مد شبكة الري والسقي والانارة، وانجاز لوحة الى جانب ابي نواس دونت فيها اشعاره في التضرع يا سائل الله فزتَ بالظفر وبالنوال الهني لا الكدر
فأرغب إلى الله لا إلى بشر منتقلٍ في البلى وفي الغبر
بذلك ألبس ابو نواس طابعا يقترب ربما من الطابع الديني، واعيدت يد شهرزاد ليستريح شهريار مجدداً على اريكته منصتا الى حكاياتها التي لا تنتهي، وتم بناء قاعدة رخامية تجملها الالوان، وانشئت ملاعب شبابية للفرق الشعبية فكانت ثمار هذه الجهود متنزهاً كبيراً.
اما المواطن محمود السيد حامد ( مصري الجنسية ) فقد اعتاد الجلوس فقي هذا الشارع العريق , معبرا عن سعادته الغامرة عندما يجلس على ارائكه وعلى اديم حدائقه الغناء التي تذكره بموطنه ألاصلي ( مصر ) ويؤكد محمود بان على طول الشارع تجد فرقاً امنية تحرس المكان والمواطنين حتى ساعات الليل المتأخرة التي يحاول ان يطيلها مرتادوه مجددا، ليعود ليل ابو نواس الساحر الى ما كان عليه، وفود من الشابات وطلبة الجامعات واشجار وعشاق وهمسات خجلى بين الاحبة تتخاتل في ظل الاشجار، واطفال تتقافز براءتهم بأراجيح الحدائق والمقهى البغدادي يتوسط الحدث. كل ذلك تجده في شارع ابي نواس من دون ان تتناسى رائحة السمك المسكوف التي يعود عطرها يملأ المكان حيث يشكل المسكوف أهم علامة وبصمة تحدد هوية هذا الشارع العريق.

السمك المسكوف
ويستذكر رائد ثامر سعدون يوم كان ياتي مع اصدقائه ويتناولون الدولمة والسمك المسكوف , ويصف عوائل بغداد عندما كانوا يستعدون لتناول طعام العشاء فتجد الموائد العراقية , وكانت (الدولمة) هي الطبق الرئيسي، بينما كانت عوائل اخرى تجدها بأكلات اخرى أضافت الى المائدة نكهة مميزة.
سعيد بما أشاهده
وفي مكان اخر دعانا ابو احمد لتناول طعام العشاء معهم وهو يقول بسعادة: إنها المرة الأولى التي نزور فيها أبو نؤاس، فمنذ فترة وأولادي يلحون علي للمجيء الى هنا إسوة باصدقائهم والجيران ولكني كنت اخشى ان تكون الأمور ليست على ما يرام، فقد سمعنا الكثير مما كان يمنعنا من القدوم الى هنا، ولكني سعيد حقا بما أشاهده الآن، فالزحام كثير حتى تكاد الحدائق على سعتها تغص بالزوار. ويضيف: ولكن انخفاض نهر دجلة مشهد آلمني بصراحة فسابقا عندما كنا نزور شارع ابو نؤاس كان دجلة يستقبلنا بزرقة مياهه وحنانه أما الآن فنضطر للنزول الى مسافة عميقة لمشاهدته.

فرحة اصحاب المطاعم
وكانت فرحة أصحاب المطاعم لا تقل عن فرحة الأهالي فقد عبر (سامي رشيد) عن فرحته بقدوم الزوار الى مطعمه مستذكرا سنوات الهجر كما سماها قائلا: دائما كنت أرى مطاعم السمك المسكوف وكأنها محطات الحياة على كورنيش ابو نؤاس، وبعد اقفالها في السنوات التي تلت الحرب، كنت أمر من هنا واشعر برغبة في البكاء وأنا أرى المطاعم مقفلة ومهجورة ويعلو الغبار أبوابها، كانت الحدائق مهملة وعوضا عن رائحة السمك والزهور كنا نشم رائحة البارود. أما الآن، فاشعر بسعادة غامرة وانا ارى العوائل تأتي الى الشارع وتتمتع بالأمان وتمرح، كما ان مطاعمنا صارت قبلة لكل المغتربين الذين عادوا الى الوطن ، فسمعة السمك العراقي المسكوف تنتشر في كل البلدان العربية حتى إن المطربين العراقيين ذكروه في أغانيهم عن الوطن . وأضاف: نحمد الله على ان عملنا بخير الآن، فالمطاعم تغص بالزبائن ليلا ونهارا حتى اننا صرنا نقفل بعد منتصف الليل بعد إن كنا نفتح في النهار فقط.

ملجأ ألعشاق
طيور الحب تغازل العشاق وشارع أبو نؤاس، المعروف بشارع الغزل إسوة بالشارع الذي سمي على اسمه، يستقطب العشاق ثانية، ليصبح ملجأ لهم بعيدا عن عيون الرقابة وغلاء أسعار المطاعم والكافتيريات. وعلى جرف دجلة تتقافز الطيور والحمائم لتكون مستودع أسرار العشاق ورفيق ذكرياتهم، وتحت ظلال اغصان الاشجار التي توزعت على حدائق أبو نؤاس تتوزع الثنائيات وهم يتمتعون بخصوصية قد لا يجدونها في مكان آخر، فبعد إن كانت السلطات تطارد العشاق وتعد حركاتهم في الزمن الماضي، أصبحت تسعى لتوفير الأمان لهم. ورغم امتناع غالبيتهم عن الحديث، وافق سمير وهدى على التحدث الينا فقال الشاب: هنا نشعر بالأمان أكثر من أي مكان آخر، فقد توفرت الحماية الأمنية وبسبب وجود أعدادا كبيرة من الناس، يحترم العشاق وجود الناس ويحترمهم الآخرون، وبصراحة لا نحاول أنا وهدى الإبتعاد كثيرا فنحن نرى ونسمع عن بعض الممارسات غير المحببة من قبل الشباب والشابات، ورغم انني احترم الحرية الشخصية الا انني ارى اننا مجتمع محافظ ويجب أن نحترم الأماكن العامة. ووافقته هدى على ذلك قائلة: ان أجمل الحب هو ما كان نظيفا بعيدا عن السلوكيات اللا اخلاقية مضيفة: إن علاقتنا جادة وستتم خطبتنا قريبا ان شاء الله وأصر على ان نحتفل بخطوبتنا على حدائق ابو نؤاس لأنه شهد تاريخ حبنا. وأكدت هدى على إن الإجراءات الأمنية المشددة التي تحيط بشارع ابو نؤاس هو ما يجعلها تتجرأ على القدوم اليه مع حبيبها. وبشأن السماح للعراقيين بممارسة حرياتهم الشخصية قال ناهض عامل موقف السيارات « أشاهد يوميا عشرات الشباب والشابات وخصوصا من طلبة الجامعات القريبة يأتون بشكل منتظم إلى أبو نؤاس ويجلسون ويتسامرون من دون أن يسيء احد لهم، ونحن بدورنا لا نتدخل طالما ان عناصر الأمن توفر لهم الحماية، فرغم ان بعض الممارسات نجدها غريبة على مجتمعنا، الا اننا صرنا نتقبلها ونغض الطرف عنها طالما إنها لا تسببب ضررا للآخرين، فمهما فعل هؤلاء الشباب فهم اقل خطرا من غيرهم من القتلة والأرهابيين على الناس. كانت كلمات ناهض على بساطتها تحمل الكثير من المعاني، فكلما كثر الحب كلما قل الشر وانتشر الأمان، ورغم استنكار العديد من الناس والعوائل لبعض الممارسات التي تحصل على حدائق ابي نؤاس فسرها البعض على انها تعبير طبيعي عن سنوات الكبت والحرمان التي عانى منها الشباب في ظل نظام كان يحارب كل مظاهر الحب والحياة، وعوضا عن قسوة رجال الأمن صار بعضهم أصدقاء لعشاق الشارع حيث قال (إحسان التميمي) أحد عناصر الأمن: صرنا نعرفهم تقريبا، وعندما يأتي (كبل ) جديد فاننا نستطيع تمييزه، بل اننا تعرفنا على بعضهم وعقدنا علاقات صداقة معهم وفي بعض الأحيان نقدم المساعدة لهم في الحصول على سيارات اجرة مثلا ، حتى ان منظر شارع ابو نؤاس صار اكثر جمالا مع وجود العشاق وعندما يغيبون يصبح الشارع خاويا ونشعر ب(الوحشة). ونحن نودع شارع ابو نؤاس، ورغم الحنين الذي جذبنا اليه، كانت حكايا الف ليلة وليلة التي حكاها لنا الآباء والأجداد عن هذا الشارع ينقصها الكثير، فلكي تكتمل الفرحة في عيون الكبار والصغار من رواد الشارع، على الجهات المسؤولة ان تولي المزيد من العناية وتفتح اماكن جديدة للترفيه واحتضان العوائل ليستمر كورنيش ابو نؤاس حضنا دافئا للعائلة العراقية كما كان دائما.