سأنطلق من رؤيتي لهذا النص من مصطلح « المدينة «، حيث تشكل المنطلق المركزي للقلق الشعري الذي يسكن الشاعرة كالعادة، فتوظيف « المدينة في النص، هو توظيف رمزي، و دلالاته متعددة الأبعاد، فهناك البعد النفسي، و هناك الذاكرة و التاريخ، و هناك العلاقات الاجتماعية بكل تداعياتها، و جميعها أبعاد تستوطن الذات الشاعرة.
و اذا كانت « المدينة» في مدلولها الأوسع تحيل رمزيا الى الوطن او الأمة ، فان استخدامها الوظيفي هو استخدام الهامي، مهد للشاعرة الأدوات الشعرية ( أسلوب…رؤى شعرية…ألفاظ…خيال..) القادرة على كشف الواقع الوجودي للانسان ، و الذي تشهد عليه المدينة/ الوطن و تفرز تداعياته. و انطلاقا من البداية، تعمد الشاعرة الى تشخيص واقع هذه « المدينة» فهي صامتة، نائمة و حزينة، و جميعها دلالات شكلت لدى الشاعرة هاجسا أدى بها الى استخدام المدينة/ الوطن، كرمز لقضية تسكنها و تراودها كحلم امتد معها منذ طفولتها « كنا أطفالا يا فعين…و حدنا الحلم الجميل….»
و رؤية الشاعرة للمدينة كقضية، تداعت من خلالها رموز متعددة الدلالات، منها رمز الغربة و التمزق، فالمدينة مدلول وجودي، فلا وجود بدون مكان، الا ان الشاعرة ككيان، فهي لا تشعر بأن هذه المدينة تحتويها أو تنتمي اليها، فهي مازالت في طور الملاحقة « نلاحق أضواء السماء…و بين الكواكب نشيد بيوتا من ورق..» فكل الرموز هنا تحيل على الغربة و العبث، فأضواء السماء مصيرها التلاشي، و بيوت الورق تبقى مجرد ورقا…وهنا يحتد الصراع بين الأمل و اليأس، فتتمنى لو تحولت الى رماد « و أجمعنا على ان نحترق تحت الشمس و نصير رمادا..» و بين مشاعر الامل و اليأس، ينبعث منعرج فارق في النص، و هو البعد البعد الأساس الذي ترمز اليه « المدينة» كالتزام و قضية ، فينتفض الوعي الشعري في أعماق الشاعرة، لتعلنها ثورة صارخة، لعلها تعيد السؤال الغائب/ الحاضر الى الواجهة « يصيح السؤال المعلق في الحناجر….ألا نعرف كيف نصب الغضب…؟» و لا تقف عند هذا الحد، بل تريدها ثورة ممتدة ، حتى يُجاب عن السؤال الأزلي « فثورة المواسم لا تسد جوع الفصول..» و كأن هزائم المدينة/ الأمة المتتالية، و الواقع الرديء ، قد أتعب نفسية الشاعرة و ترك فيها « جرحا غائرا لم يقطبه الفرح المؤقت» و كأنها سئمت الفرح المؤقت/ الوعود، و قبل الختام، ترمي الشاعرة على « ضفاف المدينة» هذه الصيحة « متى نصحو و يُسمع الصهيل..؟» انه السؤال المرير الذي أرقها و أثقل همومها و هي تقرأ « الوجوه التي شردها الزمن..
و ما يتعب الشاعرة أكثر، هو رؤيتها الضبابية للأفق « صادفت سفننا تسكنها اشباح الليل…كتب على سقف بابها …اين الطريق الى البحر…؟»
الا ان الشاعرة تأبى في الختام الا ان تتجاوز عتبات اليأس ، فتطرح البديل الايجابي ، و هو ضرورة العودة الى اليقين، فوحده القادر على انقاذ المدينة من رواسب التخلف و الجهل و الاستكان « نحن الذين أغلقنا نوافذ اليقين …و فتحنا ابواب الوهم..»
و تبقى الاشارة الى أن النص توخى الموضوعية و خرج من أغلال الذاتية، حيث امتد الى معانقة قضية المدينة/ الوطن، بكل تداعياتها و اشكالياتها، و ثنائيتها الانسان و الأرض، و ان دل هذا على شئ ، فانما يدل على بلورة الوعي الشعري لدى الشاعرة ، و توجيهه نحو الالتزام بقضايا ذات أولوية.