الكاتب عبدالله علي شبلي – زاكورة المغرب
تاه بين مسالك المدينة المتعددة حد التشعب والتشرذم ، يحصي خطواته المتناثرة المتثاقلة وحيدا ، كشخص ضائع ، كيتيم مشرد يبحث بعيون دامعة متفحصة عن وجبة دسم متوقعة هنا وهناك ،لم يكن يرى شيئا ، ولا يريد شيئا ، كان حينها يغازل الشوارع والطرقات بنظرات تائهة ، خاوية لا تلوي على شيء ، لم يكن عاشقا هائما بحب يسكن نبض قلبه ، ولا باحثا متبحرا يستقصي نبض المجتمع وحاله ، ولم يكن متشردا شاردا ، ولا كان مجنونا معتوها هاربا ، ولم يكن … ، ولا كان …
كان « انسانا «بما تحمله الكلمة من معاني حبلى بالدلالات الغريبة والمتناقضة حد التشظي والضياع .
تمشى بين الأزقة المعفرة بالأوجاع والأنين ، المنداة بمياه الغسيل الرخيص ، والمعطرة بروائح السردين النتنة ،تلك التي تزكم أنوفا عابرة ، اختلطت تربة الأزقة بحذائه الذي لمعه قبل خروجه حرصا على سواده وبريقه أيضا، أدخنة السيارات وأبخرة الشاحنات التي ترسل إلى قلبه جلبة وصداعا وحرقة. قبل أن تصل إلى أذنيه المتعبتين أصلا بمضاجعة عبارات مدنية سمجة ، لم تألفها بدويته المتجبرة في دواخله ، المتجذرة في شريانه الأسمر.
انزوى في ركن قصي بعد أن هاتف صديقا مميزا كان ينتظره ، حاول أن يفتش عن هدوء مستلب ، عن هواء نقي صاف مفلتر ، افتقده بعيدا هناك ، حيث نبت بين السذاجة والنخيل السامق سموق رجالات الريف في هذا الوطن ، لم يجده أبدا أبداً ولا وجد رجالات الوطن ، انتزع الفكرة تماما من رأسه الأشيب ، وأخرجها من حساباته المعقدة ، واستلها من تجاويف دماغه ملفوفة برباط وردي حالم ورماها بعيدا بعيداً ، فاستراح من وجعها العنيد وأنينها المديد…
فعاد مهزوما مأزوما ، هو الآن يمني نفسه ، كغيره ، بارتشاف قهوة أثيرة ، تلك القهوة عودته منذ زمن ، أن يخرج ما في دواخل نياطه دفقا وسيلا ، لعلها تجبر الحروف على التدفق فيضا مدرارا ، ومدادا غدقا … لقد اختزل الهموم كاملة في هم واحد حتى يكفاها ، هو لا يريد من دنياه الفانية الدنية إلا أن يكتب ، ويكتب ، ويكتب…
هذه اللذة الفينيقية التي تجعله كائنا غريبا ، وتصيره متعاليا ، وسط كل هذا العبث والجنون المدني الذي لا يتناسب مع بداوته المميتة ، التي ينحرها هذا الضجيج ، وينخرها هذا السديم ، لم يجد له بدا من أن يعيش شهوته في الكتابة ، ليحيا في حميمية تنهي دفعة واحدة كل ذلك ، تجب كل ما سبق ، تفترسه أيضا ، بل وتلتهمه على عجل ، لتصنع منه طعمة لضياعه واستلابه ، تقطر منه ترياقا يمد شريان قلبه بشلال حب دافق ميسمه الدعة والسكينة.