أحمد إسماعيل / سورية
الحقيقة دائماً تضع النقاط على الحروف و تسلط الضوء على الكلمات حتى و إن كانت قاصرة… لترى كل شيء بلا عينين.
في الماضي القريب كان ينظر للمسافة بأنها مصطلح لا أكثر و أنَّ حدودها تتلاشى أمام الرغبة بالوصول، لكنَّ المسافة تبقى المسافة لا يمكن لأي شيء أن يلغيها حتَّى و إن كان تضحية بعمر،
و المصيبة أنَّه ما زال غير مقتنع بأنَّها شيء قابل للتصديق خاصة حين يعود لتأمل نفسه، و مع التأمل يبدأ السؤال بمراودته مراراً و تكراراً ليشنَّ عليه حرباً و القلق ينتهز فيها كل فرصة ليقطِّعه أشلاء من الداخل.حقاً كيف لا يستطيع شخص ضخم مثله يلعب ساعات في صالة تدريب لكمال الأجسام أن يلامس يد حبيبته و المسافة بينهما أقل من شبر، يسمع صرخات نبضها، يراها رغم انقطاع الكهرباء، يراها رغم العطش و الجوع و رغم الثلوج التي تكسو كل شيء في الخارج .
الضعف ينحت جسده الآن بشكل مختلف، و الأيام بالنسبة له تحسب بعداد الوحشة و قلة الحيلةهناااااااااااك،
ففي كل مرة يصرخ بأعلى صوت، يحسُّ بأنه إذاعة بحد ذاتها، و أنَّ الكثير من المارة سيسمعونه، لكنَّ الحطام و الانهيارات من حوله تصنع صدى أعظم للخسف الذي يزداد في داخله.
أن يكون من تحب بجوارك و في نفس الغرفة و على مقربة من نفس و لا تستطيع أن تلمس حتى ظفره يحثُّ ردَّات فعل الألم بشكل يمكن أن يتجاوز التصورات، لأنَّ الوجع يدعوك إلى تحدي العجز الذي تعيشه و نسيان أن عضلات أطرافك رسم بلا معنى، فالتفكير بنصفك الآخر يحفز الحواس لممارسة رياضة كمال الأجسام بشكل مختلف، خاصة حين يكون جسدك مقيداً بأطنان من الركام الذي سببه الزلزال…
همس إلى ذاته قائلا:لا وقت للتذمر أو التأفف، على الفور بدأ يعقد هدنة مع الانهيارات التي بداخله، ثم جعل روحه تصاحب الخيال، و بعدها بدأ يستر على عيني الوجع و يغلقها رويداً رويداً و هو يمارس تمارين قاسية قد تدمي العضلة من كثرة الإجهاد و ربما تقضي عليها و على صاحبها المغامر ، فقط لأنها العضلة الوحيدة على قلب الموازين، عضلة قادرة أن تسبح في الزمان و المكان و تنمو في عكس إتجاه الخراب المحيط بهما.
بدأ يتذكر اللحظة الأولى التي شاهد فيها حبيبته أمل و حتى يبقى شعور الاطمئنان بأنها على قيد الحياة سارياً في داخله قال: أرجو أن تغني معي أغنية ( جدير بالذكر ) و بدون توقف.
– و لم لا هي أفضل شيء يلغي هذه المسافة الغارقة في بحر الدموع.
و بدأا يملآن المكان بصدى حسهما:
( ملاحظاتك على كلامي
كتير جداً بتعجبني
خصوصي لمَّا بالمنطق
تقول كلام و يغلبني
ساعات فعلاً بكون محرج
و إن ينسب دا منسوبك
لكن فعلاً بكون فرحان
و بدعي العقل دا يدوملك جدير بالذكر
تحية و شكر
لوقفة حضرتك جنبي…….)
أثناء الغناء بدت الغرابة تظهر على محيا الجدران المهدمة، و أخذت تصنع ثقباً هنا و ثقباً هناك.
المجسات و آلات الاستشعار بالأجساد الحية التي تعمل بها فرق الإنقاذ بدأت تلتقط إشارات من البناء الذي أصبحت طوابقه العشرين عبارة لا أكثر.
الكلاب المتخصصة تبحث عن منفذ للوصول، و رجال الإنقاذ يقومون بفتح ممر ،
و بعد جهد كبير…
التصفيق صار في أوجه مع اللحظات التي وضع فيها عبد الواثق و أمل على لوحي الإنقاذ،
و الأيادي تتسابق لتتبادل حملهما حتى يصلا آمنين من فوق تلال الركام إلى الأرض، و الدموع تنتهز الفرصة لتصبح ممزوجة في وجوه أهل الحي مع الابتسامات و الشكر، و الكثير منهم يقول: أي معجزة هذه؟! اثنان ينبضان تحت الأنقاض بعد ثلاثة عشر يوما من الزلزال…..
لم يكترث عبد الواثق بهذه التفاصيل كان مستمراً في الغناء، لكن قبل أن يحملوه إلى سيارة الإسعاف توقف لسانه عن الحركة، فقد لاحظ عيني أمل مغلقة والدموع تتدفق منهما، وكأن المسافة قدر بات يلاحقه، على الفور غمز المنقذ غمزة جعلته ينحني برأسه سريعاً تجاه فمه، همس في أذنه و مع ابتسامة عريضة استقام المنقذ ثم صاح لرفاقه:
توقفوا….
اقتربوا بنقالة عبد الواثق من نقالة أمل.
حمل المنقذ يد عبد الواثق الضخمة المثقلة بجروح تزيد عن وزنها و وضعها فوق يد أمل.
فتحت عينيها و قالت : الآن أنا أتنفس.