عبد الكريم جواد احمد الطحان الأسدي

يزدحم المجتمع العراقي بنماذج مضيئة تركت بصماتها واضحة في المشهد المعاصر واحتلت مكانتها الريادية في الذاكرة. ولان بين بابل وقبيلة بني أسد وشائج ومواقف ورجال فقد افتتح محافظ بابل الاستاذ عدنان فيحان وبحضور الشيخ سالم ثعبان الخيون امير إمارة بني أسد نصب الأمير سيف الدولة صدقة بن مزيد الأسدي مؤسس مدينة الحلة المزيدية الأسدية صاحب المواقف الشجاعة والسيرة الناصعة والذي يعتبر المؤسس لمدينة الحلة الفيحاء.جاء الافتتاح لمناسبة يوم النصر العظيم للاحتفاء بهذه الشخصية الأسطورة التي خلفت ارثا ملحميا يستدعي الفخر والاعتزاز وبحضور رئيس مجلس محافظة بابل الاستاذ اسعد المسلماوي وشيوخ ووجهاء إمارة بني أسد وشيوخ ووجهاء المحافظة. وعدد كبير من الاعلاميين الذين أشاروا لهذه الخطوة بعين الاعتزاز والتقدير والتثمين.
الأمير سيف الدولة أبو الحسن صدقة بن الأمير بهاء الدولة منصور بن ملك العرب دبيس بن الأمير علي بن مزيد الأسدي المولود في مدينة النيل من محافظة بابل عام442هـ . وحكم اثنتين وعشرين سنة.وهو أهم شخصية في تاريخ الإمارة المزيدية الأسدية، وتعد مدة حكمه من أهم الحقب في تاريخها ، ففيها أخذت تتوسع بصورة كبيرة وتبني كياناً خارجياً قوياً , وهذا يعود بالدرجة الأولى الى شخصيته وكفاءته السياسية والعسكرية , فهو من أختطّ ومصر مدينة الحلة سنة 495هـ وفي سنة 498هـ حفر خندقاً حولها. وأحاطها بسورفي يوم21 من رمضان من سنة 500هـ وهو السور الذي أشار اليه الشاعر الكبير صفي الدين الحلي عندما قال :
مــــــا حلة ابن دبيس الا كحصن حصين
للقلب فيهـــــــــا قرار وقــــــــرة للعيون
ان اصبح الماء غورا جاءت بمـاء معين
وحولهــــا سور طين كأنه طـــــور سين
حيث كانت أجمة تأوي اليها السباع لكنه أتخذها عاصمة له لعدة أسباب منها أنه أراد الابتعاد عن المشاكل والمنازعات السياسية. وموقعها الجغرافي الاستراتيجي فهي أجمة يصعب الوصول اليها فهي بذلك مدينة حصينة من منازعات السلاطين وهجمات القبائل الأخرى وقربها من المياه وخصوبة أرضها وسيطرته على طريق قوافل الحجاج من بغداد الى الكوفة وبذلك تكون الحلة محطة مهمة بينهما .
وسميت بـ(الحلة المزيدية) نسبةً إلى بني مزيد قبيلته. وسميت أيضا بـ (الحلة السيفية) نسبة إلى لقبه (سيف الدولة). الذي تنبأ بها أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(ع) في سنة 37هـ عند وروده صفين حيث قال : (ستكون مدينة يقال لها الحلة السيفية يمدنها رجل من بني أسد ، يظهر بها قوم أخيار ، لو أقسم أحدهم على الله لأبر بقسمه) فازدهرت ازدهاراً عظيماً حيث قصدها العلماء والتجار من البلاد المختلفة.
لقبه الخليفة العباسي بـ(ملك العرب) وهذه الالقاب لها أهمية كبيرة في نفوس القبائل العربية ولا تطلق الا من كان له سلطة وتفوق كبير وقدرات وامكانيات كبيرة .
وقد خضعت له القبائل الفراتية وامتدت إمارته إلى البصرة وواسط والبطيحة والكوفة وهيت وعانه وتكريت وحديثة، وسيطر على أقوى القبائل العراقية لذلك العهد مثل خفاجة وعقيل وعبادة وقبيلة جاوان الكردية. وخطب له من الفرات إلى البحر ، وذاع صيته واتسعت رقعة ملكه، وتضاعف عدد رعاياه ، وأحبه الناس، وقدره العلماء، وأحترمه الأدباء، وهو الصادق الصدوق، كريم النفس، جزيل العطاء، حسن الوفاء، جواداً رحيماً كثير البر والإحسان.
أهتمّ بالشؤون الإدارية والعمرانية والثقافية، كما عمل في سياسته ـ كأسلافه ـ على العدل في الحكم، وتميز عهده بنهضة علمية وفكرية حيث عاش في دولته العلماء والأدباء وأقبلوا على دولته من كل البلاد الإسلامية وأصبحت الحلة حاضرة من أعظم الحواضر الإسلامية. وقد ذكره الكثير من العلماء والادباء والشعراء والكتاب.وفي سنه 501هـ أستجاره سرخاب الديلمي فأجاره فأشعل الشر ناره وفرق في الآفاق شراره وطلبه السلطان محمد بن ملك شاه مراراً فأجابه ورام من السلطان العفو فما أصابه وما زال يلح والسلطان يلح الى ان جاءه السلطان محارباً حيث قال للرسول : (لا أسلمه بل أحامي عنه) وأقول ما قال ابو طالب لقريش لما طلبوا منه الرسول الكريم( ص):
لا نسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن ابنائنا والحلائل
وجمع صدقة عسكره وبلغ عشرين الف فارس وثلاثين الف راجل والتقى الجيشان في مطير آباد فدمرهم الأمير صدقة قتلاً واسراً وغرقاً وسار السلطان الى الزعفرانية وأمر الأمير صدقة جنوده بلبس السلاح وجعل ولده دبيس في الميمنة ومعه سعيد العمري وجماعه من الأكراد وفي ميسرته أبنه بدران ومعه عبادة بأسرها والأمير صدقة في قلب المعركة ومعه أبو دلف سرخاب الديلمي وأبو المكارم حماد أمير البطيحة وتقابل الجيشان بالقرب من النعمانية فلما نشب القتال تقاعدت خفاجة وعبادة عن نصرة الأمير ووقعت خيله في الوحل , فلما حمى وطيس الحرب كشف سيف الدولة صدقة رأسه وصاح : (يا آل خزيمة يا آل عوف يا آل ناشرة أنا تاج الملوك أنا ملك العرب النار ولا العار) . وقاتل قتالاً شديداً ووعد الأكراد بكل جميل لأنهم أبلوا معه بلاءاً حسناً وكان راكباً فرسه (المهلوب) الذي لم يكن لأحد مثله . فلما رأى الناس قد تكاثروا عليه هربوا وحمل سيف الدولة على الأتراك فرشقوه رشقة واحدة خرج منها عشرة الاف نشابة فوقع سهم في ظهره وتعلق به غلام وضربه بالسيف وقتله وأخذ رأسه الى البرسيقي قائد جيش السلاجقة وأسر ولده دبيساً وكان القتلى من الطرفين ثلاثة الاف قتيل. واما ولده بدران فقد ذهب الى الحلة وأخذ من الأموال ما أمكنه وسار بأمه ونسائه الى البطيحة ثم الشام ثم توجه الى مصر وتوفي هناك سنه 530هـ وبقي أولاده من بعده مدة ثم رجعوا الى العراق .
وهو أول من شق جدولاً صغيراً من الفرات من بلدة المسيب الى الكوفة ليسقي أهالي النجف اذ لا ماء لهم وكان اغنياؤهم يجلبون الماء من الكفل وفقراؤهم يشربون ماء الآبار المالح وذلك على نفقه امرأة هندية مثرية فنسب اليها فقيل نهر الهندية .
وقد صنف الشريف أبو يعلى محمد بن محمد بن أحمـد بن الهبارية المتوفي504هـ كتابه الصادح والباغم على صفة كليلة ودمنة الفي بيت وأرسله مع أبنه فأعطاه لكل بيت دينار ومنه:
الأسـدي المزيدي صدقة ومن اذا كذب مـدح صدقة
ولم تزل حلتهم مــــعاذا لـكل من يهـرب من بغدادا
وقد ذكره العماد في خريدته حيث قال : (كان الأمير صدقة جليل القدر جميل الذكر جزيل الوفر للوفد مجداً في حراسة قانون المجد , له دار الضيافة التي ينفق عليها الأموال الطائلة , المعروف بإسداء المعروف وإغاثة الملهوف من دخل بلده أمن مما كان أخافه في أيامه صارت الحلة حصناً حصيناً وكان شديد المحافظة على من يستجيره كثير الحراسة لمن يجيره , معروفاً بالوفاء).وقد زخر عهده بالأحداث يقول عنه أبن الأثير في تاريخه: (كان جواداً حليماً صدوقاً كثير البر والإحسان، ما برح ملجأ لكل ملهوف يلقى من قصده بالبر والإحسان، وكان عفيفاً عادلاً لم يتزوج على امرأته ولا تسرّى عليها، ولم يصادر أحداً من نوابه ولم يأخذهم بإساءة قديمة، وكان أصحابه يودعون أموالهم في خزانته ويدلون عليه إدلال الولد على أبيه. ولم ير رعية أحبت أميرها كحبها له. وكان متواضعاً يبادر إلى النادرة. وكان حافظاً للأشعار، وكانت له مكتبة تحوي ألوف المجلدات وكانت منسوبة الخط شيء كثير، ألوف مجلدات…… لقد كان من محاسن الدنيا).
وقال عنه الذهبي:(صاحب الحلة، الملك، سيف الدولة، صدقة ابن بهاء الدولة منصور بن ملك العرب دبيس بن علي بن مزيد الأسدي الناشري العراقي، أختط مدينة الحلة في سنة خمس وتسعين وأربع مئة)
وقال فيه ابن الجوزي في المنتظم :(كان كريماً ذا ذمام، عفيفاً عن الزنا والفواحش, كأن عليه رقيباً، مكن الصيانة، ولم يتزوج على زوجته ولا تسرى, ولم يشرب الخمر، ولا سمع غناء، ولا قصد التسوق في طعام، ولا صادر أحداً من أصحابه وكان تاريخ العرب والأماجد كرماً ووفاء وكانت داره حرم الخائفين).
قال ياقوت الحموي في (معجم البلدان) عن الحلة:(كان أول من عمرها ونزلها سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن علي ابن مزيد الأسدي، وكانت منازل آبائه الدور من النيل، فلما قوي أمره واشتد إزره وكثرت أمواله لانشغال الملوك السلجوقية بركيارق ومحمد وسنجر أولاد ملك شاه بن ألب أرسلان بما تواتر بينهم من الحروب، انتقل إلى الجامعين موضع في غرب الفرات ليبعد عن الطالب، وذلك في المحرم سنة (٤٩٥هـ) وكانت أجمة قصب تأوي إليها السباع، فنزل بها بأهله وعساكره وبنى بها المساكن الجليلة والدور الفاخرة، وتأنق أصحابه بمثل ذلك وصارت ملجأ، وقد قصدها التجار وصارت أفخر بلاد العراق وأحسنها مدة حياة سيف الدولة، فلما قتل بقيت على عمارتها، فهي اليوم قصبة تلك الكورة، وللشعراء فيها أشعار كثيرة…..).وكان السلاجقة يعيثون في الأرض فساداً ودماراً، وكثرت غزواتهم على المدن الآمنة وانهمكوا بالسلب والنهب، ومارسوا أبشع الجرائم بحق المسلمين الشيعة، وقسموا العراق إلى إقطاعات بين قوّادهم ومحسوبيهم من الأتراك، وعاش الناس في بلاء لم يشهدوا مثله، فرأى الأمير صدقة أن يطهّر البلاد العراقية من هؤلاء الظلمة الجائرين ويحق الحق وينشر العدل، فعزم على قتالهم فخاض حرباً مع (ينال بن أنوشتكين) وانتصر عليه ودخل بغداد، واتّسع نفوذه ليشمل أيضاً: واسط وهيت وتكريت والكوفة والبطيحة والبصرة. واستمرت الحروب بين الدولتين بعد أن رفض الأمير صدقة تسليم جماعة لجأوا إليه فراراً من السلاجقة ومنهم سرخاب ابن كيخسرو صاحب ساوة وفي هذه الحروب انتهت حياة صدقة سنة (٥٠١هـ) وعمره تسع وخمسون سنة، وإمارته إحدى وعشرون سنة، وحمل رأسه إلى بغداد قتلاً في حربه مع السلاجقة وأخذوا من زوجته خمسمائة ألف دينار، وجواهر نفيسة. وأسر ولده دبيس الثاني وأسرته في عهد السلطان محمد السلجوقي، وبعد وفاة هذا السلطان جاء بعده أبنه محمود السلجوقي الذي أطلق دبيساً بن صدقة من الأسر وأعاده إلى الحلة سنة (٥١٢هـ) فأنشأ الدولة من جديد.
وقد عبر ابن الأثير عن ذلك بقوله 🙁… ان صدقة قد عظم أمره وزاد ماله وكثر دلاله ويبسط في الدولة حمايته على كل من يفر اليه من عند السلطان وهذا لا تحتمله الملوك لأولادهم … لقد كان يستجير به كل خائف من خليفه وسلطان وغيرهما) .
أما القلانسي المتوفي سنة 555هـ فقد وصفه بقوله :(لم يكن للعرب بعد صدقة مثله في البيت والنقد وإحسان السيرة , فيهم والانصاف لهم والانعام عليهم وكرم النفس وجزيل العطاء وحسن الوفاء والصفح عن الحرائر والتجاوز عن الجرائم والكبائر والتعفف عن أموال الرعية وإحسان النية للعسكرية).
وكما قال اليعقوبي في بابلياته :(سيف الدولة صدقة مؤسس الحلة الفيحاء ملك العرب وأمير بادية العراق ورابع أمراء الدولة المزيدية في الحلة السيفية وله المساعي الحميدة المشكورة والايادي البيض في تأسيس الحلة الفيحاء وجعلها مقراً لإمارته وعاصمة ملكه وانشاءه المعاهد العلمية فيها حتى أصبحت محطة رجال العلم ودار هجرة الأدباء بعد ما كانت قاعدة إمارة آبائه بلدة النيل وله خزانة كتب قيمة وكان يقرأ ولا يكتب وكان جواداً حليماً صدوقاً كثير البر والإحسان ما برح ملجأ للكل , يلقي من يقصده بالبر والتفضل , عادلاً والرعايا معه في أمن ودعه عفيفاً).
أما الشاعر أبو الحسن محمد بن علي بن أبي الصقر الشافعي الواسطي دخل على سيف الدولة صدقة واسطاً في سنة 496هـ وظفر بأعدائه منهم القيسري وهو كمشتكين شحنة بغداد من قبل السلطان بركياروق وعفا عنهم وانشده:
اذ اردت الامان من سيف(سيف الـ ـدولة) اسكن با(الجامعين)و( سورا)
يا ( بني مزيد ) , لأيامنا ومـــــــ ـلم شموســـــــــــا , ولليالي بدورا
يا ( بني مزيد ) غيوثــــــــــا بقيتم وليوث الثــــــــــــــــرى اميراً اميرا