د. فاضل البدراني
في زيارتين لنا وخلال أسبوع واحد لمدينتي البصرة جنوب العراق، ومن ثم الموصل شمال العراق، لمست فرقا شاسعا بين اليوم والأمس القريب من حيث طبيعة الحياة، ونوعية الخدمات، وتبدل نمط الحياة بالاتجاه الإيجابي، وأبرز مؤشر ملحوظ هو التقدم في المشهد الثقافي، وحركة العمران بشكل لافت، فماذا يؤشر ذلك؟وفي منظور فكري عام، قيل إذا ما كانت العواصم قوية باستقرارها، فالمدن البعيدة عنها حتما تكون مستقرة، وقيل أيضا إذا ما كانت المدن القديمة سليمة في وضعها الاقتصادي والأمني والثقافي،
فذلك انعكاس واضح بأن العواصم حتما قوية ومستقرة، وفي العراق فالمؤشرات الملموسة عندما تكون المدن البارزة مثل الموصل والبصرة مستقرة فحتما ينعكس ذلك على استقرار العاصمة بغداد، فالموصل سلة غذاء العراق، وبينما ترفد البلد بالمحاصيل الزراعية الاستراتيجية من القمح والشعير بنسبة 80 بالمئة، فأنها أيضا حضارية موغلة بالقدم تحتضن حضارة الآشوريين، وتتمدد إلى مقر عاصمة الحضر جنوبها بحوالي 80 كلم، وأما البصرة فهي فضلا عن عراقتها وقدمها وموقعها المتميز على الخليج العربي حيث شط العرب وحركة الملاحة الدولية، وأن غابت عنها منذ عقود لكنها مسجلة على إنها مدينة شاطئية بثقافات عالمية، تمثل عاصمة العراق الاقتصادية لما تحتويه من حقول وآبار للنفط والغاز والبتروكيماويات.
وأثناء زيارتي في الأسبوع الفائت لمدينة البصرة وحضور فعالية ثقافية في فندق الميلينيوم بحضور وزير الثقافة والسياحة والآثار الدكتور أحمد فكاك، ومحافظها السيد أسعد العيداني، وجمهور نخبوي في قمة الرقي والذوق، وبمشاركة شخصية عراقية ذات شهرة عالمية هي السيدة الاء السعدون، أثبتت تلك الساعات أن البصرة مدينة مستقرة وتنهض بشكل يومي، وفي جولة لنا في مساء وصباح اليوم التالي لأحياء المدينة سررت بحجم الخدمات البلدية من شوارع نظيفة وواسعة وأرصفة، وطراز عمراني جميل ومحال تجارية عامرة وحركة تسوق لافتة للنظر، وعلى الرغم من ذلك يقينا هناك معاناة على مختلف الصعد تواجه سكان البصرة لكن اقولها إن الحياة اليوم مختلفة عما كانت عليه قبل أربع أو خمس سنوات مضت، والبصرة اليوم مدينة واعدة بعوامل جذب اقتصادي وسياحي وثقافي وعلمي ستنافس بها كبريات المدن العالمية المستقرة.
وعلى صعيد متصل، فبعد يومين من زيارة البصرة توجهت إلى الموصل مركز محافظة نينوى، تلك المدينة التي ابتسمت لنا منذ مدخلها الذي يحكي لنا قصة حضارة قوية (الآشورية) مدينة أجمل ما فيها شوارعها الواسعة المخدومة بنسبة عالية وبأناقة الطراز العمراني لمنازلها وجمالية أحيائها السكانية، مدينة لمست فيها حركة عمل وعمران، فلا يبدو شخص بلا عمل وكأنهم يقولون امنحونا فرصة السلام، وسوف نمنحهم متعة الحياة في مدينة طبيعتها المناخية الأجمل من كل شقيقاتها الـ(17 مدينة) عراقية، والفعالية التي أقيمت بالتعاون بين وزراتي الثقافة والسياحة والاثار والتعليم العالي في مسرح جامعة الموصل والذي يسع إلى 1400 شخص، كانت درسا موصليا من حيث نوعية الحضور والهدوء والإصغاء، لكل لحظة مرت من وقت الاحتفال بالمهرجان الثقافي لجامعة الموصل، وكما هي الإيجابيات هناك تحديات منها حاجة الموصل لمطارها الذي توقف منذ اكثر من عقد من السنين، وأيضا لا يوجد فيها فندق بمواصفات عالمية، وان كانت وزارة الثقافة والسياحة قد حسمت الأمر بجهود مضنية باستعادة فندقي نينوى أوبروي والموصل وسيتم العمل بهما قريبا.
وبهذا التوجه الجديد لأكبر مدينتين عراقيتين والانتقال بالوضع فيهما إلى مرحلة البناء والتنمية والثقافة والاستقرار والعمل، أرى أن ذلك ينم عن نهج إداري يترجم لواقع جديد، فلا يحتضن الفعاليات الثقافية والفنية والعلمية الا المدن التي تنعم بالاستقرار التام.