ا. د جهاد كاظم العكيلي
تحتل القبيلة في مجتمعنا مكانة مُهمة، ومكانتها هذه إنما متأتية من توصيف قرآني كريم، ولكنه توصيف مشروط، اُذ قال تعالى : (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ..
وفي هذا السياق القرآني، يُفترض أن تقوم القبيلة والعشيرة بتنظيم العلاقات المجتمعية بين أبنائها وبين القبائل والعشائر الأخرى، على النحو الصحيح، وأن لا يتم التفريق بين فرد وآخر إلا في الدين والتقوى..
ويفترض أن يبلغ صحيح القول هذا ذروته الإنسانية حين تعصف بالقبيلة او العشيرة أزمة ما، أيَّ أزمة، وهذه هي حالة موروثة منذ القِدم، ويكون فيها شيخ العشيرة هو صاحب القول الفصل، ومن هنا نشأ قانون العشيرة، وما على الأبناء إلا الإنصياع لهذا القانون الذي يكتسب قوته من قوة شيخ العشيرة وأحيانا من قوة وجائهها الذين يتميزون كما الشيخ بالحكمة والتروي والعقلانية عند إتخاذ قرار ما ..
بمعنى آخر أن، قانون العشيرة هذا إنما يجري وفق ما مُتعارف عليه حديثا بنظام التابع والمتبوع، ولم يكن هذا القانون في يوم ما يتعارض مع وجود نظام الدولة وقوانيها التي تنظم العلاقات المجتمعية بقوة وسلطة القانون لكن اللافت للنظر صار الكثير من افراد هذه العشيرة او تلك يقع في وهم كبيرن ومنه على سبيل المثال لا الحصر، تفاخره غير المشروع وهو، في هذا الحال خالف الصحيح بل وخالف حتى قانون الدولة، فيما البعض الآخر، وعلى الرغم ممّا يمتلك من قـدرات فكرية وعقلية في مجالات الحياة المختلفة بقى سجينـا لقانون الشيخ والعشيرة من حيث يدري او لا يدري! ..
والشيئ بالشيئ يذكر، حينما كنت طالبـا لدارسة الدكتوراه في قسم الإجتماع في جامعة كيل البريطانية في ثمانينيات القرن الماضي، سألني أستاذي المشرف على رسالتي، عن ماهية تركيبة المجتمع العراقي وسياسته الإقتصادية والإدارية وصانعي القرارات فيها، حينها كانت إجابتي عن أثر حملة الشهادات والإختصاصات العِلمية والفنية، قاطعني قائلا، إذن مع كل هذا والإنسان لم يرتق به كل هذه المؤهلات إلى مستوى يليق بحياته اليومية، وأجاب أيضا، أن المشكلة تكمن في إطاركم الفكري، أي ما هو موجود من قيِم في عقولكم أثرت في نموكم وإزدهار بلدانكم، وقد فضلتم خصوصياتكم على العموميات التي تهم المجتمع، بمعنى صبغة العشيرة وقانون القبيلة هما من يُسيطران على التعاملات التي تخص السياسة العامة للدولة وتتحكم بها أفكار القبيلة الضيقة ..
حينها قدَّم لي أستاذي المشرف، ورقة كتب فيها أسم المؤلف حنا بطاطو، وحثني على الإطلاع على بعض مؤلفاته، وكان منها (الطبقات الإجتماعية والحركات الثورية في المجتمع العراقي من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، وكتاب (الشيخ والفلاح في العراق (1917-1958)، وهما، أي الكتابين، تم منعهما آنذاك من نشرها في العراق وتداولها ..
ويُفيد هذين الكتابين اللذين قرأتهما آنذاك من أن، العراق كان محكوما بعلاقة قبلية مفرطة تتسم بوصاية الشيخ وقانون العشيرة، التي حوَّلت ماكنة الدولة العراقية إلى نظام أشيه بنظام العشيرة وبعلاقة مؤطرة بقانون يصلح للبعض ولا يصلح للآخرين، وعلى وفق هذا السياق، كما يعتقد بطاطو، عملت الأنظمة السياسة بهذا الإطار الإجتماعي القبلي، إذ نجدها تتصالح مع القبيلة في أحيان، وتختلف معها في أحيان أخرى، وغالبا ما تكون تركيبة الحكومة عشائرية في معظم الأحوال مُغلفة بنظام سياسي معين، وأصبح الإنسان تابعا لها بكل الأحوال وإن كان غير منتمٍ إليها..
ويعتقد بطاطو أن هذا النوع من النظام هدَّم المجتمع، وجعله لا يمتلك قدرات البناء والتطور التي تسيطر عليه العلاقات الإجتماعية على حساب نوع العمل والإنجاز، العلمي على الرغم من إمتلاك المجتمع إمكانات عقلية متميزة لكن سطوة العشيرة تجرفها، وتلغي وجودها مثلما تجرف السيول تربة الأرض وتختلط كل مكوناتها لتؤثر بالتالي في خصوبتها ..
في هذا السياق بقى إبن العشيرة يدور في فلك نظام إجتماعي سائد منذ سنين طوال، وأصبح الشيخ يزحف بنظامه في مؤسسات الدولة وتشكيلاتها التشريعية والتنفيذية، مما ساعد في زيادة نفوذه وسطوته، وفي ظل النظام الديمقراطي الجديد صارت القبيلة او العشيرة وعاء إنتخابي مهم لأبنائها المترشحين للظفر بعضوية مجلس البرلمان او مجالس المحافظات فما أشبه اليوم بالأمس، بل وصار إعطاء حالة الإمتياز للشيخ في كل الأحوال، طبعا مع بعض الإستثناءات القليلة للبعض منهم، فمثل هؤلاء يرفض حالة، أو ظاهرة جديدة تنافس وجوده أو سطوته في داخل قبيلته، أو ظهور رموز جديدة من بين أبناء العشيرة تتخطى مراسيم القبيلة الموسومة بالطاعة العمياء، وساعدت في إستقطاب الشباب لتمكينهم من أن يكونوا قوى جديدة تميل الى التحرر، والإرادة الحرة، وتؤمن بتغيرات العصر الحاضر المتمثلة بإستقلالية الرأي والرأي الآخر، والولوج إلى المعرفة، والحوار المفتوح، وعدم الإذعان إلى الإستغلال المادي ولا إلى الإنقياد الأعمى، وتلك حالة صحية تسير بالإتجاه الصحيح ..
وبخلاف ذلك نجد سرعان ما يشرع بعض الشيوخ الإطاحة بهؤلاء الشخوص وبأسلوب التدليس والتوريط وجعلهم تحت طائلة قانون العشيرة في الدولة الحديثة ما يُعيدنا للتذكر ما قدّمه بطاطو في مؤلفاته التي إهتم بها الباحثون الغربيون بشأن المجتمع العراقي وتركيبته لمعرفة أسباب إنكساراتنا وتراجعنا عن بقية الأمم وشعوب العالم، وما زلنا نخفي عيوبنا عن ذلك .. ونططئ رؤوسنا لسيوف أصحاب العشيرة ونفوذ شخوصها المتسلطين للنزول إلى رغبات إبن شيخ العشيرة وشيخ العشيرة .. طبعا العشيرة التي لا تسير في التوصيف القرآني الكريم : (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ..