بقلم نصر العماري
استيقظ متأخرا نظر الى الساعة الحائطية
بدت الارقام والعقارب شاحبة ضبابية .
مد يده الى طاولة السريرالجانبية «comidino» يبحث عن نظاراته الطبية .
لاحظ انه استيقظ متأخرا عن يوم امس.
لم يسمع نداء المؤذن كالعادة رغم ان الجامع قريب من محلّ سكناه …
تثاءب ووقف متثاقلا جرّ. رجليه واتّجه الى دورة المياه. فتح الباب وولج. التفت الى المرآة على يمينه .تفرّس في وجهه. جحّظ عينيه. مطّ شفتيه. نزع القلنسوة من على رأسه. رفع يده و»لعّب» كفّها واصابعها عل ذقنه . دقّق النظر في الشّعيرات التى ترفض غزو وجهه .داء الثّعلبة يكاد يستحوذ على وجههه الممتقع.
هذا الدّاء اعياه ، منعهُ من ان يتزّين بلحية حنائية اللّون .
كانت ستسدل عليه آيات الوقار والجلال ،
وهو يضع جبّتة القمرايا وبرنسه القطني حين يعتلي المنبر يوم الجمعة…اشتراهما من القيروان استعدادا لخبر التّعيين …
لكن للسلطة حسابات اخرى . لم يكن مصابا بداء الثّعلبة حين تقدّم بطلب لمعتمد المدينة ملتمسا تعيينه إماما …
معتمد المدينة، يُكنّ له احتراما كبيرا …اترى ذلك من دماثة اخلاقه، ام دهاء وسياسة؟… السّياسيون لا يُؤتمن جانبهم…
و لكن ماذا يقصد حين قال له» خلّي وحدة وطلّق وحدة»…
هل كان يقصد؟… هل اكتشف انّه… ؟
اعاد القلنسوة على رأسه تقدّم خطوتين نحو المرحاض. مدّ يده ليفتح ازرار سراويل نومه المخطط . احسّ برغبة في التّبول .
لكن وخزات الوجع سبقت قطرات البول المتقطع.
تراجع الى الخلف وهو يمسك بكليته .
اتكون حصوة من حصوات الكلى تحركت من مكانها على اثر شربه كمّية من مُغلى البقدونس. جذب زرّ صارفة المياه …
تساءل هل الماء مقطوع … ام صارفة المياه معطبة …؟
ما كان عليه ان يُذعن لهذه اللّعوب ولا لهذا السياسي القديم لكنّه وعده ان يكون اماما ، ووعدته ان تكلّمه وتلح عليه …
كانت البداية حين استدعته كي يفتح لها قارورة الغاز.كانت تضرب حنفية قارورة الغاز بيد المهراس في الاتجاه المعاكس … هي جارته لكن لم ينتبه لها الا في ادارة المعتمدية. حيّته بحرارة يبدو انها تشتغل هناك. وهي تعرفه… وتتابعت الخدمات .
اتكون هذه الآلام «اوووه.. انها قاسية. كأن خنجرا وخزه» اتكون نتيجة مرض اصابه؟
هذا ماقاله صديقه الممرض المتقاعد. نصحه بشرب مُغلى البقدونس …
كانت جميلة جذابه طرية …» اووه الالام حادة مسامير حادة تخزه في كل مكان…»
ا تكون البروستاتا هي التي تضخّمت عنده؟
افي هذا السن تتضخم البروستاتا ؟ …
لكنّها طمأنته .سيحضى طلبه بالقبول .قالت له واثقة : «المعتمد لن يرفض لي طلبا سأكلمه في شأنك.»
هذه اللّعينة ، اوقعته في شراكها.
لم يعد قادرا على الحياة بدونها . لكن قلبه ليس معها…
كان يتعمّد ان يخرج معها ليجوب بعض شوارع المدينة بالتّحديد.
لعلّه يغيض الفتاة التي رفضته.
تلاميذه اشاعوا قصّة حبّهما…
كان متعلّقا بها لكنّها، لم تتعلّق به… كانت تعتبره استاذا فقط
وصديق شقيقها…
عَاوده الوخز في اسفل بطنه وتوزّع يمينا ويسارا نحو كليتيه . توجه مباشرة الى قاعة الجلوس . تهالك على الاريكة الجلدية .القى برأسه الى الخلف واستنشق الهواء بعمق. «اوه… ألمٌ لا يُطاق» . تساءل اليس من حقّه ان يُحبّ تلميذته؟ .. اليس من حقّه ان يتزوّجها؟
ما هذا التخلّف؟ تذكّر زميله استاذ التفكير حين قال له: «انت بعثوك باش تقريّها والا باش… ؟» وقطع كلامه . واضاف «سيّب عليك خُوذ زميلة».
ليته لم يعمل بنصيحته .لم يشعر بالسّعادة يوما منذ تزوّجها .استاذة مغرورة ، في نفس اختصاصه … لم تتغير حتى بعد ان انجب منها… اولاده ، كانوا على شاكلتها … استعلاء وعقوق…
فكّر في ان يُعدّ قهوة «نسكافي « قام من مكانه وتوجّه نحو المطبخ…
عاش غريبا في اسرته …ازدات غربته في بلد الاعارة.
كان المكان نحسا. لم يجن منه غير المال. بلد تعيس بأهله وتاريخه وجغرافيته …
احسّ انه في المكان الخطإ، لم يُعلّم احدا ، كان يُسند الاعداد بسخاء دون استحقاق…
الحمد لله عاد الى مدينته بعد سنوات ، ومعه مال وسيارة ، لكن ذلك لم يُسعده… مافائدة المال حيث لا حبّ ولا حنان ولا بِرّ…
الألم يُعاوده بين الحين والآخرو تتسرّب الاوجاع الى ظهره …
تَماسك وعَاد وهو يجرّ رجليه نحو قاعة الجلوس مُمسكا بفنجان القهوة .. وضعه امامه على المائدة البلّورية ..
تَهالك على الاريكة من جديد.
تذكّر ان زملاءه منحوه ثقتهم حين عاد …
تساءل : هل كان جديرا بذلك ؟ .. اصبح النّاطق باسمهم والمتحدث عن شواغلهم…
لكن الدّخول في اضراب في هذا الظرف بالذات قد يُفسد علاقته بمعتمد المدينة.
هذا الذي استقبله استقبالا حارا.
وقف وترك مكتبه وتوجه ليصافحه ويجلس قبالته،
هامسا يا سيد عبد الرحمان « بلغنا انك اصبحت الكاتب العام … ستكون اماما ونقابيا في نفس الوقت، وقهقه ههههه» ثم اضاف:
اتعرف يا سي عبد الرحمان ان هناك من يتآمر على وطننا العزيز …
مدّ يده لجهاز التحكم في التلفاز … شغّله انتقل سريعا بين القنوات .. استقر رأيه على قناة «فرونس 24»…
كانت الحرب دائرة بين احد اقوى جيوش
العالم ومجموعة من المقاوين من غزة …
احس بالآلام تنسلّ عنه شيئا فشيئا…
اخذ رشفة من القهوة … ليست جيدة هو لا يجيد تحضير القهوة…
وقف واتجه نحو المطبخ فتح الثّلاجة اخرج قنينة ، عبّأ منها كاسا من مُغلى البقدونس . شربها في نفسين..
عاد الى قاعة الجلوس مُتمتما :
اي حرب هذه التي تخوضها حَماس وحدها… الحَماسُ وحدهُ لا يصنع الانتصار …
عشرون الف شهيدا… عشرون الف فقيدا.. عشرون الف معوقا… والبقية مهجرون…
تذكر انّه وعد بالكتابة في هذا الموضوع..
المجلة تنتظر منه المقال …
وقف توجه نحو شماعة الملابس مدّ يده نحو جيب سترته الدّاخليّ فتّشه ، فتّش في جميع الجيوب . توجّه الى مكتبه بالقاعة المجاورة
اجال بصره بحث بين بعض الاوراق والمجلات، لكن لاشيء.. يبدو انه اضاع قلمه المميز
هذا القلم المذهّب . لطالما افتخر به وتباهى بين زمالائه .كان يقول : «قلمي فريد بين اقلامكم انه من ذوي اللسانين… «
احسّ بوخزة شديدة في اسفل بطنه . امسك بالمكان الموجوع ، الوجع يكتسحه في كامل جسمه .. تكوّر وعاد مسرعا الى اريكته . تهاوى عليها متألما:
«اممممه.. هذه قوية قوية.. يا رب قوية اب.. اب..اب»
وبعد التأوّه، نفخ وبسمل وتضرّع ورفع يده وضرب جبينه وتذكّر انّه ترك قلمه في مكتب معتمد المدينة بعد ان امضى الاستقالة من الكتابة العامة وتنازل عن العمل النقابي وقدم له قائمة في المضربين .