أمل هاني الياسري/ العراق
أعماقُ الترابِ تخاطبُ ملائكةَ الحقِّ في الليالي الحالكةِ بمقبرةِ وادي السلامِ، وأصواتُ الوجعِ تضطربُ بزلزلةٍ متوسطةٍ الثقلِ، وإذا بروحِ جثةٍ تطوفُ حولَ قبرِها، لتنصبَ محكمةً فوقَ الخاصرةِ، وكانَ مقدراً حضورُ كواكبِ السماءِ ونجومِها لهذهِ الجلسةِ الطارئةِ.
بدأَتِ الجثةُ بالحديثِ: قدسيةُ قانونِ الموتِ لا اعتراضَ عليهِ، وبدَتْ عليها بقايا خجلٍ انثويٍّ، داعبَ عظامَها الموجوعةَ، أثارَتِ الملائكةُ والكواكبُ والنجومُ ارتيابَها مما ستقولُ، والتي لم تجدْ سوى ذكرياتِها، لتلتحفَ بها عفةً وعفافاً، في حينِ أنَّ أصنامَ الحرامِ طفقَتْ خوفاً وارتعاداً، مما ستؤولُ إليهِ الأمورُ في نهايةِ المحاكمةِ.
أخرجَتْ كتيباً صغيراً عنوانُهُ: (وصايا الألم)، ومن المقررِ أنَّهُ ستتمُ قراءتُهُ آجلاً، لكنَّها أصرَّتْ على أنْ تقرأَهُ هيَ بنفسِها، ومن تلاواتِ الذاكرةِ ارتجفَتْ أصابعُها المعوجةُ من ضربهِ المبرح لفتحِ الوصايا، لتذرفَ أوراقَ البلايا الزائرةِ ماءَ مقلتيها الناعستينِ، جراءَ تعبِها وضعفِها في السنواتِ الماضيةِ، فقد عاشَتْ معهُ ثلاثينَ عاماً، وبصماتُ حوافرِهِ تخطُّ خرائطَها على جسدِها المتهالكِ.
فَهِمَ الحاضرونَ من ظلالِ دموعِها، أنَّها ظُلِمَتْ كثيراً وماتَتْ قبلَ أوانِها، مترنحةً بينَ ميراثِ الجاهليةِ الحمقاءِ، وبينَ ملفاتِ لسانٍ لم يتورعْ معها أبداً، ثم صكَّتْ وجهَها حزناً، واصطكَتْ أسنانَها التي بانَ تاجُ أخاديدِها من شدةِ الألمِ، فقد كانَتْ وسادتُها تداوي جروحَها ليلةً بعدَ أخرى، وهي تقاسي بصمتٍ عذاباتِ حياتِها المليئةِ بالحزن.
قالَتْ : لا أستطيعُ الكلامَ فأوصافي ناقصةٌ، لأنَّ ملايينَ حروفٍ من الآهِ والاخِ تطنطنُ بينَ أكتافي، وأقدامي لا تقوى على الوقوفِ طويلاً، فالقبرُ أخذ مني مأخذَهُ!
اصطفَتِ الملائكةُ والكواكبُ والنجومُ في مسيرةٍ حاشدةٍ، لتنبشَ أعوامَ الأسى، وتتظاهرَ أمامَ مجلسِ الكلماتِ، التي عاشَتْها تلكَ الجثةُ، فوجدوا أنَّ محرابَ عظامِها المقوسةِ، خفقَتْ تحتَ مدادِ وصاياها المؤلمةِ بعبارة: (أنا أريدُ الموتَ)، وقد لاحَتْ راياتُ الحكمِ على مقربةٍ من سفينةِ ذكرياتِها.
بينَ همهماتِ ملامحِها النحيلةِ، وأساريرِ الوهنِ التي طالَتْ بدنَها وعقلَها، حينَ حاولَتْ أزمنةُ البؤسِ اعتقالَ صلواتِها، تمسكَتْ بحبلٍ معلقٍ بينَ الأرضِ والسماءِ، ملأتَهُ دموعاً وجروحاً، فنسجَتْ سلسلةُ من طلاسمِ الدعاءِ، التي تعرفُ نهايةً الحكايةِ وحتميةَ المصيرِ.
نطقَتْ الجثةُ باعترافاتِها الأخيرةِ، في حضرةِ أصحابِ الجلالةِ من الملائكةِ، والكواكبِ، والنجومِ، وبعدَ أنْ نفضَتْ غبارَ السنينَ من بقايا أضلاعِها، صرخَتْ: أنا أحملُ كيساً لليانصيبِ معي في القبرِ، أوصيُكم بأنْ تخرجوهُ من أفواهِ البحارِ، وتحاولوا استنطاقَ جمجمةَ التأريخِ المستعارِ، عن بقايا عظامِ جثةٍ لم تستطعْ البكاءَ على روحِ أطفالِها، لأنَّها غادرَتْهم قسراً، وجوراً، وظلماً، وعدواناً!
آسفةٌ أنا… لم أستطعْ، ولن أستطيعَ إكمالَ ترتيلَ جلساتِ المحاكمة، لأنَّها شديدةُ الانفجارِ!!!