بقلم / محمود خيون
منذ صغري وأنا مولع بقراءة قصص نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس وطة حسين و المنفلوطي وعبد الرحمن مجيد الربيعي ونزار عباس وموفق خضر وموسى كريدي وفؤاد التكرلي وهمنغواي وهمبرت همبرت وارتنس جيبور جيبو و مارغريت ميشيل وكولن ولسن وغوغول واجاثا كرستي وجين اوستن ووليم شكسبير و دالتون ترامبو وارنس ماريا ريمارك وغيرهم من عمالقة الأدب العراقي والعربي والعالمي..
.ومنهم تعلمت الكثير من فن بناء القصة والرواية على الرغم من أنني لست كاتبا لكليهما ولكني اسجل ملاحظاتي وقراءاتي عليها واحتفظ بها لنفسي أو للمناقشة بشأنها مع عدد من زملاء المهنة والشعراء والنقاد وكان اقربهم الي أستاذي ومعلمي الدكتور علي جواد الطاهر ومحي الدين إسماعيل وطراد الكبيسي ومنذر الجبوري ونزاز عباس ورشيد مجيد رحمهم الله…كذلك الروائي فؤاد التكرلي الذي كنت ازوره في مكتبه… وقد توقفت قبل أيام وانا أقرأ للروائي والقاص حسن الموسوي روايته( صرخة في ذاكرة امرأة ) التي عادت بي إلى السبعينيات يوم كانت الكتابة تذهب بالقاريء بعيدا حيث المتعة والتشوق وملاحقة الحدث حتى النهاية ومن دون أي طلاسم أو غموض أو مايسمونها اليوم بالرمزية والدمج بين الأسطورة والواقع مثلما حدث في رواية ماركيز ( مئة عام من العزلة ) وغيرها….
وفي بلادنا العربية ذهب الكثير من كتاب الرواية إلى إستخدام( التقنية الرمزية خوفا من الحكام والأمراء ومن خلال هذه التقنية الروائية و قد عبروا عن التمرد الفكري والاجتماعي والسياسي الذي كانت مسيطرا على المجتمع العربي..وفي هذا العصر بدأ عبد الرحمن منيف كتابة الرواية فاستفاد من هذه التقنية لطرح أفكاره الرائعة حول القضايا المهمة للمجتمع العربي ومنها رواية ( الأشجار واغتيال مرزوق) و( حين تركنا الجسر ) ثم انتقل إلى الرواية الرمزية الموضوعية والواقعية وهي( شرق المتوسط ) و( النهايات) و( سباق المسافات الطويلة.. وانتهى إلى الرمزية التاريخية كما في رواية( مدن الملح) …)
ومما تقدم أقول أن الروائي حسن الموسوي إستطاع الجمع بين الاثنين فتارة يستخدم الرمزية الخبرية المباشرة وتارة أخرى يدخلنا في سردية الحدث المباشر والذي يتطلب حرفة ودراية ومهنية عالية مثلما امتلكها الكبار من الكتاب …. ولعلنا نجد ذلك في محاورته الذاتية التي تنم عن ألم كبير يجوس في أعماق أبطال روايته.. الام التي تنتظر عودة ولدها( صبيح) .. ( وانا اطوف في بحر الأمنيات تناهى إلى مسامعي صوت ابني( صبيح) والذي لم أره منذ أكثر من سنة)…ثم تردف ( كان صوته أشبه بنوتة موسيقية..أو مثل موال شجي أبدع في أدائه المطرب الريفي الكبير( داخل حسن)….)…
ثم يعود الكاتب حسن الموسوي ليدخلنا في دهليز آخر من دهاليز التيه والتشتت( في عتمة الليل تتراءى أمامي أشباح خمسة…وهي ترقص رقصة غريبة لم اشاهد مثلها من قبل على إيقاع غريب ويمسكون بدفوف كبيرة تتمزق كلما وضعوا أيديهم عليها..لكنها سرعان ما تلتئم بطريقة عجيبة..في البداية أنكرت المشهد وبصعوبة بالغة خرجت الكلمات محترقة من بين شفتي…من أنتم؟؟ :- نحن أمنياتك الضائعة…قالت الأشباح.. ارتعشت اوصالي لسماعي ذلك..فغرت فاهي غير مصدقة لكل مايدور من حولي ومتساءلة في الوقت نفسه :- هل حقا تتجسد امنياتي ليلا بصورة أشباح من دون ملامح؟!.. ) ثم تواصل ذلك الحلم الواهم بالقول والوصف( في لجة الأحداث الثقيلة لم تأبه الأشباح لكثرة تساؤلاتي..فيما واصلت رقصتها بنشاط منقطع النضير.)…
وفي اعتقادي أن الكاتب أراد في هذه المرة أن يشبه الحالة الهستيرية التي تعيشها ام ( صبيح) بعد أن خطفت الفوضى التي تعيشها ومن حولها ولدها العزيز. وتمثل الأشباح هنا مجموعة المتناقضات والاقدار التي فتكت بكل مفصل من مفاصل الحياة وصار الموت قريب من أي كائن ليفترسه ومن دون تمييز….
لقد أبدع الكاتب حسن الموسوي في تصوير الحالة العامة التي تعيشها البلاد والعباد جراء انعدام الأمن والأمان في عموم البلاد التي صارت لا تخضع لقوانين محددة ومعلومة..ويتضح ذلك من خلال الهواجس والمخاوف التي تمتلك الناس في لحظة وموقف مريب قد ينتج عنه حدث كبير ومثير آخر يجسد مناظر الموت والخراب والدمار…ففي الفصل الثاني من هذه الرواية تنتاب ( حميد) مخاوف وقلق من جميع من حوله وكأن مصيرا مجهولا ينتظره ويلوح في الأفق..فهو يرى أن لابصيص للامل في أن تعود الحياة كما كانت عليه في السابق هانئة ومستقرة على الرغم من المتاعب الكثيرة التي رافقتها ولكن بالامكان تجاوزها بالصبر والحكمة والدراية …اما اليوم فلا أحد يعرف مصيره فيها وبأي سبب يموت.. ( تنتابني الهواجس كدوائر هلامية تشكلت بفعل حصاة ضربت صفحة النهر…هذا اليوم ليس ككل الأيام…فلقد خلته وكأنه اليوم الأخير في تأريخ البشرية..لا اعرف لماذا بات فكري مشدودا إلى عائلتي وبيتي..فهذه هي المرة الأولى التي أشعر فيها بالقلق عليهم على الرغم من خروجي المستمر للعمل كل يوم طلبا للرزق. ثم يهمس:- سترك يارب!!. ) …ويواصل في سردية متلاحقة لجميع هواجسه ومخاوفه…( قلت ذلك وانا أستمع لحديث الناس الذين كانوا يتبضعون من الأسواق التي امتلكها.. كان أغلب حديثهم يدور حول السيارات المفخخة ومدى الدمار الذي تحدثه عند انفجارها خصوصا في الأحياء الشعبية.. لقد بات الوضع مقلقا جدا واخذت الأمور تنحى منحى خطرا حينما بدأت السيارات المفخخة بزرع الرعب في نفوس المواطنين الآمنين..حتى بات الجميع يرى في أي سيارة تمر بالقرب منهم وكأنها الوسيلة الوحيدة التي ستنقلهم الى العالم الآخر..). لقد برع الروائي حسن الموسوي في تصوير تلك المواقف الإنسانية الكبيرة والمحرجة والتي تبعث في النفس والروح الألم والغصة والجروح…وكأنه فنان رائد إستطاع أن يرسم لوحاته من خطوط متشابكة ومتقاطعة تثير الدهشة لدى الناظرين وتبعث في النفوس القلق والخوف والريبة من مستقبل مجهول ينتظر أن ينشر ظلاله الكئيبة على جموع من المعدمين والفقراء وممن ليس لهم حول ولا قوة إزاء الغول المفترس الذي تسلط على رقاب الناس..أقول أن الروائي المبدع حسن الموسوي أعاد لنا في مضامين جميع فصول روايته ( صرخة في ذاكرة امرأة ) ما جسده الكاتب أرنست همنغواي في رائعته( لمن تقرع الاجراس) والتي تعد( من أروع ماكتبه همنغواي..ففيها صراع العواطف الإنسانية والحب والخيال والفقر والفن والحروب بويلاتها والنزاع بين العقائد والمثل صور همنغواي في قصته هذه الحرب الأهلية الإسبانية بما فيها خطوط النضال فعكس بذلك مقدرة قصصية تصويرية لم يمتلكها أي قاص آخر في زمانه ).. ولعل مايثبت بأن الكاتب حسن الموسوي قد اختزل الكثير من المواقف والصور في ذاكرته فراح ينشرها الواحدة تلو الاخرى على شكل فصول متناسقة السردية والبناء الفني للرواية الحديثة.. فيعود بنا فجأة ومن دون مقدمات الى موقف إنساني مؤلم آخر. ( حين وصلنا إلى ثلاثة قبور بنيت حديثا لم اتمالك نفسي هويت عليها كالمجنون وبقيت حائرا من أي قبر ابدأ بقراءة زيارة أصحاب القبور…التفت إلي الحاج( محمود ) والذي وقف جامدا بالقرب مني..:- أنهم أولادي يا حاج..لقد فقدتهم في يوم واحد!.. أرجوك تكلم معهم وبلغهم سلامي..وقل لهم بأن رحيلهم قد كسر ظهري…)
وهنا إستطاع الكاتب حسن الموسوي من فك طلاسم الإشكالية التي تمخضت عن الحوار بلسان الغائب بين الحاج محمود وأولاده وهم في القبور….( أبنك الاكبر يسلم عليك ويقول أن أخاه الاصغر لم يغادر عالم الأحياء..وان صحيفته في عالم الأموات مازالت مطوية ولم تنشر حتى الآن…)…
لقد تمكن الكاتب في هذه المحاورة والسيناريو الذي جمع فيه الرمزية بالخيال والدلالة وربطها بالواقع المأساوي الذي يعيشه هو في ظل تلك المعاناة.
أقول ليس هناك قوة تضاف إلى حوارية الموقف أقوى مما جاء به الكاتب على لسان الحاج ( محمود)….
لذا تعد رواية( صرخة من ذاكرة امرأة ).. واحدة من الأعمال الكبيرة والمميزة التي تناولت وبحبكة ومهنية عالية الواقع الرديء الذي كتب علينا.