بقلم/ سارة الجبوري
مثلما تعاني الجبال والأرض من عوامل التعرية؛ أجد أن الذاكرة في هذا العصر تعاني من عوامل القلق، وضعف همة العلم، أمام مغريات الحياة، ووقوف صاحبها في زاوية ضيقة وكأنه يرمق المجتمع بعين واحدة وعليها غشاوة، ولذلك نجده في بُعد عن مسايرة الحياة التي نحن فيها، فيكون نتاجه مرآة صادقة للواقع، إذ أصبح هذا المنتج، عبارة عن نتوءات ذاتية أكثر ما تعبر عن المجاملات والمماحكات بلا حس ولا إحساس، وإن كان بعضه غير ذلك، ولكنه شبه نادر، والنادر لا حكم له.
وأصبحنا أيضاً نفتقد لمنتج فكري يعبر عن مآسينا، عن أحزاننا، عن تطلعاتنا، عن فكرنا، عن أفكارنا..
أدرك بأننا في الواقع نعيش عصراً مختلفاً، وهو عصر مأزوم، فمن المستحيل أن نجد في هذا العصر مؤلفاً أو مبدعاً أو فنانًا مثل السابقين في (سعة معلومته، وثقافته، واتزانه، وهدوئه، وعقله، وأمانته، وصدقه، وصبره، وكفاحه، وتواضعه، والتزامه، وانقطاعه للعلم..) وإن وجدنا فمن النادر.
إننا في الواقع متخوفون من قابل الأيام، ونحن أمام ثقافة جديدة، وعلم جديد، لدرجة تمييع العقول وأنها أصبحت ملكاَ لهذه الأجهزة بل الإنسان نفسه أصبح أسيراً لها.
و أن غياب القدرات في هذا العصر، لهو بسبب التسابق على مكان أو مكانة دون إعمال القدرات فيما يهم المجتمع وخدمة الفكر الإنساني بشكل عام. أي أن إبداعنا في هذا العصر تغلب عليه الانطباعات الذاتية، وإن تعدَّت فهي مجرد ألفاظ تومض ثم تنطفئ، لأنها تنتمي للمنفعة المنفعة، وأن المنفعة ليست إنجازاً، بما تحويهِ من مشاعر غير صادقة…
زاد عليها، المتغيرات العالمية المتلاحقة التي نشهدها حالياً؛ والتي ساعدت بشكل أو بآخرعلى الخمول والسكون والركون إلى مسلمات الواقع، وإذا ما أردنا أن يكون لنا مكان في هذا العالم فعلينا أن نصنع الإنسان القادر على الإبداع والابتكار وامتلاك الوسائل لمواجهة التحديات الحضارية وخلق مجتمع له هويته وسماته المميزة له.
ولثقة القوى الاستعمارية الجديدة في أهمية الإبداع كأساس للتطور والإصلاح، فإنها لا تألو جهداً لتغييب عقول مجتمعاتنا وإفراغها من كل مضمون ثقافي أو حضاري، وإغراقها في فراغ فكري تعجز معه عن الإبداع في أي مجال و تتحول إلى مجرد آلات بلا هوية.
فالمبدع بما يملكه من وضوح الرؤية ومن سمات إبداعية هو القادر على تغيير مفاهيم الواقع و تحسينه إذا ما تهيئ له المناخ الملائم لاستغلال الطاقات الكامنة لديه وتفجيرها لصالح المجتمع. وهذا يتطلب منا الوقوف على ظاهرة غياب الإبداع والمعوقات التي تقف حائلاً دون تفجير الطاقات الإبداعية في الإنسان العربي والتي من أبرزها:
• الانبهار بالحضارة الغربية الحديثة دون التأمل في أسباب نهوضها.
• ضعف البنية الثقافية لمجتمعاتنا واتساع الهوة الثقافية ما بين المبدع والمتلقي.
• تفشي العديد من الظواهر السلبية في مجتمعاتنا العربية كالاعتماد على الغير، والخمول، والركون إلى التعايش مع معطيات الواقع ، والسلبية، واللامبالاة في التعامل مع القضايا المختلفة الحيوية.
• التفسير المغلوط لدى بعض المبدعين لماهية الإبداع ومعاييره وضوابطه والأهداف المرجوة منه.
• تخلي الإعلام العربي عن دوره الحضاري والثقافي، وتوجيه الاهتمام لجانب المتعة والترفيه.
• العديد من الموروثات الاجتماعية الخاطئة كرفض كل ما هو جديد، أو إقران المستوى الإبداعي للفرد بالمستوى التعليمي، أو الحكم الإنفعالي على التجديد.
• الاستغلال السيء والسلبي لوسائل التكنولوجيا الحديثة نتيجة غياب الوعي الجماهيري.
• ضعف اللغة العربية وغياب الهوية الثقافية والحضارية التي تميز مجتمعاتنا.
وأخيرًا إن الإنسان العربي هو الثروة الحقيقية التي علينا استثمارها ، وخلق انسان مبدع ورعايته وتهيئة المناخ الملائم لتفجير طاقاته الإبداعية؛ هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة الحضارية التي نعيشها، وبناء حضارة قوية بما يليق بأمتنا وتاريخنا.