كريم هاشم العبودي
ما أروع ان نحيي في نفوسنا ذلك التعلق الفذ في الحياة .. وأستذكارات الطفولة .. وأيام الصبا .. ومشاكساتنا البريئة .. ايام زمان .. حيث تبقى الحياة صندوقاً شاملاً تجري في أدراجها حوادث وممارسات يتوجب تدوينها لتكون أستذكارا وبصمات لتؤرخ بنية حقيقية لأناس لاحقين، ولمن يريد أن يعرف عنها لتؤرخ بنية حقيقية لأناس لاحقين، لأن قسماً منها قد أندثر أو في طريقها للأندثار، وفي بعض الأحيان نشعر بزمننا .. يعود الى الطفولة .. حيت الأزقة الضيقة والواسعة والى مدرسة الرازي الابتدائية .. وخالد بن الوليد .. ومتوسطة الجزيرة .. ومحلة المشتل .. وذكرياتها الجميلة .. وما مارسناه فيها، فتحلق بنا في أجواء السعادة والحلم بلا شوائب .. بحيث لا تترك مكاناً ولا زماناً يغيب عن ذاكرتنا.
عاوزنا نرجع زي زمان ؟
وما أروع كوكب الشرق الراحلة أم كلثوم .. حين غنت ( عاوزنا نرجع زي زمان .. قول للزمان .. أرجع يا زمن ) .. وها هو قلمنا .. بدأ يكتب وسيستمر بالكتابة، حيث من الصعب أيقافه .. لأنه يعبر عن ذاكرة وفطرة عن طقوس فيها من البساطة والفطرة حول ممارساتنا الطفولية والشبابية فكتبنا .. ما كتبناه عن ألعابنا ودراستنا وممارساتنا وعملنا في وطن تربينا وترعرعنا فوق ترابه .. وأستنشقنا عبير هوائه وغباره وتلذذنا بمطره وبرودته وحره .. وهو الذي قدم الى أبنائه وللأنسانية أرثاً هائلاً من العادات والتقاليد والقيم والفنون والعلوم.
ايام الزمن الجميل
في تمتوعتنا الاسبوعية .. نعود الى أيام الزمن الجميل .. لنستذكر ( أيامنا الحلوة ) .. ولفات العمبة والفلافل .. والصمون المكسب .. والخبر الحار ..
الشعب العراقي متجذر بقيمه الاجتماعية
متحدثنا الاول .. الاستاذ عبد الرسول زيارة الاسدي / رئيس مؤسسة الشرق للصحافة والاعلام اذ قال : بما أن الشعب العراقي متجذر وأرضه وتمسكه بما تمثله هذه الأرض بجبالها وأنهارها ووديانها وصحاريها وما ينتج عنها من تقاليد وعادات متجانسة، فيحصل التقارب في نمط السلوك والفعل والممارسة والتكيف ، ومنها سبل العيش .. ومهنها وحرفها، ولتصوير حقيقة تراث مهنة أكلات الشارع البغدادي الخفيفة والتي لا تختلف عن ما كانت تشهده جميع المحافظات العراقية بسبب التجانس، والتي كان رواد تذوقها من البنين والبنات وحتى الكبار ينهالون عليها ويطيرون فرحاً بها، ولكن متعتها تظل كحلاوة للأطفال والشباب، ولقد تميز باعة الأكلات بأستخدام كلمات شاعرية بنغمات الصوت ..
حبة الحمص غيرت مجرى التاريخ !!
ويضيف الاسدي : في كتب التأريخ عثرت على دراسة تفيد بأن حبة الحمص غيرت مجرى التأريخ، أذ كانت على الأرجح وراء أنبعاث حضارة بلاد ما بين النهرين وأن القدماء في تلك المنطقة قد لجأوا الى زراعة الحمص وتناولوا أنواعها رغم صعوبة نموها، وتوالت السنين وأصبحت من الأكلات الشعبية الشتوية، وفي أيام طفولتنا وعند الخروج من المدارس نلتم عند بائع اللبلبي وهو واقف بجانب عربة اللبلبي وصوته القوي ونبرته الموسيقية وهو ينادي( مالح وطيب لبلبي،وكذلك يا لبلبي ويا لبلوب….وبعانة ترس الجيوب) وترى لمتنا الحلوة وتآلف القلوب والضحك المتواصل ..ونحن نأكل اللبلبي،وهذه الطقوس سواء بالبائع أو من يشتري اللبلبي موجودة في كافة المناطق وتمتاز دوما ببائع اللبلبي ذوا الحنجرة القوية وصوته الجهوري، اللبلبي وهو الحمص الذي ينقع ويتم غليانه مع الملح وقليل من الكركم .. لأعطاه اللون الأصفر، وبعض الباعة يضعون دجاحة في القدر وتبدل كل أسبوع أو أكثر ..
زجاجات الليمون دوزي والنارنج
ويستذكر الاديب ماجد فاضل العزاوي .. تلك الطقوس البريئة .. فتراه يول : كان بعض بياعي اللبلبي يوفرون زجاجات الليمون دوزي أو عصير النارنج أوالخل والفلفل الأسود .. ولا ننسى أكلة ( ألشلغم ) .. وهي
اكلة شتوية لتراث عراقي أصيل لا ينقرض ولكن بدأ يأخذه النسيان، في أيام الشتاء الباردة .. حيث يبدأ بائع الشلغم وهو يدفع عربانته لتطوف في المحلات البغدادية وأزقتها وشوارعها .. ومدارسها .. وهي تحوي الشلغم المطبوخ بالدبس .. داخل القدر الكبير، فالقسم الناضج مرتب بشكل جميل ورائحة الشلغم المتبخرة تملأ عبق المكان وهو ينادي بصوته .. الجهوري وبلحن يتماشى ما ينادي به (حار وحلوا مايع…هذا للنشلة دوة…هاذا للكحة دوة)، فتتسابق العوائل بجلب صحونها لشراء الشلغم مع الجمالة، ورغم برودة الجو الأ أن حمية التقرب من عربة الشلغم يوفر لها الدفء، وعادة ما يكون الفانوس هو الضوء الذي ينير العربة ويجعل منظرها جميلاً ومؤنساً، فالكبار والصغار تروق لهم
أكلة الشلغم، قسم يفضلها حلوة بالدبس والقسم الآخر مع الملح، في صباحات الشتاء الباردة ، حيث تتواجد عربة الشلغم في مناطق عديدة وترى الصغار والكبار يأكلون الشلغم وهم فرحين ومتآنسين، ويقال أن رجالات الدولة ووزرائها كانوا يرسلون مراسليهم لشراء الشلغم بالقدور الصغيرة ، ويقال أيضاً بأن أم كلثوم بأحدى زياراتها الشتوية تذوقت الشلغم وأعجبت بأكله، حاولت عوائل كثيرة عمل الشلغم ولكن مذاق الشلغم كان أحسن عند بائعي الشلغم نظراً لتفننهم بعمله وفق مقاييس وكمية الدبس المضاف ونوعية الشلغم وحجمه وطراوته، وفي البلدان الأوربية وضعت أماكن وشيدت أكشاك جميلة للحفاظ على بعض الأكلات الشعبية مخافة من أنقراضها،أما نحن فنعمل العكس وهذه سر قوتنا؟.
العمبة وبائع العمبة
وبعيدا عن السياسة .. والسياسيين .. يستذكر المحلل السياسي أبراهيم السراج / جانبا من ذكريات الطفولة .. وقصة ادمانه مع ( العمبة والفلافل ) .. فتراه يقول : أدمنا في أيام المدرسة على أكلة العمبة والصمون وهي أيام لا أنساها .. ولازالت طقوسها حاضرة في
أحلامي، فلقد أعتاد باعة العمبة والصمون المتجولين أيام الزمن الجميل على حمل براميل صغيرة للعمبة وسلة أو بقجة للصمون ،وقسم من الصمون مقطع الى ربع والى نص، فيقفون أمام المدرسة وكانت الأكف تمتد الى بائع العمبة وبتلهف وكنت انا من ضمنهم
لشراء ربع صمونة أو نص صمونة أو صمونة كاملة، وكثيراً من بائعي العمبة يعملوها مخلوطة مع العمبة الأصلية ، وأن القسم الأكبر يضع شرائح الشجر وشرائح البطاطا .. وعلى أساس أنها جوزة المانكا ، وقد تفنن العراقيون بعمل العمبة .. والتي كنا نسميها الشريس .. وهي فعلاً أطيب من العمبة الأصلية، ومع تطور الحالة فأنه كانت هناك عربات متخصصة بالعمبة
بأستخدام البيض والطماطة معها، وقسم من البائعين يضع لحم الروست بدلا من البيض مع العمبة والمشهور بها هو عنتر(قاسم) ،وعندما أعتاد العراقيون على أكلة الفلافل فبدأوا بوضع العمبة معها، ومن الذين أشتهروا بذلك فالح أبو العمبة، وأشتهرت العمبة مع أكلة المسكوف والكبة ، ومع التطور أصبح با ئعي الطرشي يصنعونها وبنكهات طيبة ولذيدة ، أذا تطورت أستخدامات العنبة وأفل نجم بائع العنبة والصمون، وتجدر الآشارة أن العمبة الأصلية التي تعمل من ثمرة المانكا لا تجدها في الهند ،وذلك لأنهم يصنعونها فقط
للعراق ودول الخليج ..
باكلا جديدة ما بيها دودة !!
ويتابع : وكل هؤلاء الباعة تجدهم قرب المدارس والأماكن العامة، وهم ينادون( باكلا جديدة ما بيها دودة..شامية وين الشام يناديك)، فيشتري المارة من
الأولاد والكبار صحن الباكلا ويضع البطنك والملح وعصير النارتج أو الخل ويبدا بأزالة قشرتها، وبعد الأنتهاء يشرب ماءها وهو ملتذ بها، ،أما أكلة الباكلا بالدهن الحر والبيض المقلى فهي أكلة رئيسية صباحية وتكلمنا عنها في مقالتنا حول نكهات من الأكل العراقي.
اللوبيا الخضرة
ولا ننسى اللوبيا الخضرة وبائع اللوبيا الخضرة وهي من الأكلات الصيفية وطريقتها سهلة لا تحتاج الى الغلي ، حيث يطوفوا بائعيها على العمال والكسبة صباحا وعلى شاطيء نهر دجلة عصراً، حيث يتناولها السباحين من الأولاد والشباب وهي تقدم مع
الخبز والبصل والطماطة وهي رخيصة، أندثرت الآن مكتفية بتقديمها في النوادي الأجتماعية مع المشروب في فصل الصيف.
الى هنا تنتهي .. تمتوعتنا .. والى تمتوعة أخرى ان شاء الله .. انتظرونا في قوادم الايام ..